مقالات

من يسمع صوتهم؟ عائلة وسام الطير تبكيه

منصور العمري

التقيت عام 2009 بصحفية أسترالية في دمشق، تعمل سرًا على تحقيق صحفي بشأن الاستثمارات الجديدة في الساحل السوري، والتي تزعمها رامي مخلوف مع شركات خليجية ضخمة. أحد الحوادث اللافتة حينها كان إخلاء شاطئ الكرنك الغربي، وطرد المعتاشين البسطاء منه، لتسليمه لشركات الاستثمار. أثارت هذه الحادثة غضبًا شعبيًا حينها، وخاصة بين العلويين الذين من المفترض أن نظام الأسد يدعمهم بلا حدود، والذين أدركوا مرة بعد أن أخرى أن دعم الأسد الاقتصادي وولاءه الفعلي، ليس للبسطاء والفقراء من الطائفة العلوية، بل لأعمدة حكمه.

بعدها، وخلال زياراتي المتكررة لقرى في الساحل والجبل مع أصدقاء علويين، رأيت لأول مرة بعيني الأوضاع المزرية للخدمات في مناطق العلويين تحديدًا. ففي إحدى القرى الجبلية مثلًا، لم تكن مياه الشرب أو حتى الصرف الصحفي متوفرًا.

كان الفقر واضحًا في منازل وملابس علويي هذه المناطق. كانت وجوههم التي رسم عليها الزمن القاسي تجاعيد مؤلمة، أقدر على التعبير عن معاناتهم المستمرة وسوء أحوالهم من ألسنتهم، التي نادرًا ما استطاعوا استخدامها خوفًا من النظام الحاكم، فانتقاد النظام من قبل العلويين أو حديثهم عن معاناتهم والمطالبة بحقوقهم الأساسية تُعتبر خيانة للطائفة.
ترددتُ عدة مرات على جامعة اللاذقية، ولاحظت حينها أن الغالبية القصوى من الطلاب هم من الإناث، فمعظم الذكور يلتحقون بالجيش والأجهزة الأمنية، ولا يتابعون تحصيلهم العلمي في الجامعات.
اتّبع نظام الأسد بمؤسساته الأمنية والعسكرية والاجتماعية، منهجين رئيسيين لتحويل الطائفة العلوية إلى حامل لنظامه، وكبش فداء لبقائه.
أولًا، وقف تعليم العلويين عند حد معين، وزجهم في المؤسسات الأمنية والعسكرية المنفصلة عن الحاضنة الوطنية السورية الأوسع.
ثانيًا، إبقاؤهم ضمن حدود اقتصادية ومعيشية متدنية، تجعل أقصى طموح الذكور من الطائفة الانضمام إلى مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، فيما يُعتبر وظيفة دائمة براتب جيد مقارنة بأحوالهم المعيشية، وترك الاستثمارات والمكاسب الضخمة لأقارب الأسد كرامي مخلوف، الذي يقدم بعض المساعدات للفقراء منهم، في منّة هي بالأساس حقوقهم المسروقة، ومحمد حمشو واجهة ماهر الأسد، بما كدس المليارات في حساباتهم المصرفية خارج سوريا، والتي لو قُدم جزء منها لتحسين الخدمات في مناطق العلويين لانقلبت الأحوال في تلك المناطق. تقدر قيمة ثروة عائلة الأسد بعشرات المليارات، وفي حال تم توزيعها على الشعب السوري من دون استثناء فسيكون المبلغ كافيًا لإعالة كل أسرة سورية لسنوات. بالمقابل حافظ نظام الأسد على ولاء كثير من التجار السنّة، وفسح لهم المجال للكسب الضخم، والفساد.
تهدف هذه السياسات إلى تفقير العلويين وتجهيلهم، بما يزجهم في طريق وحيد، هو المؤسسات الأمنية والعسكرية، التي تدعم بقاءه.
يقع العلويون تحت خوف وضغوط شديدة، تمنعهم من انتقاد الأسد علانية، أو الحديث عن مظالمهم ومعاناتهم ومطالبهم المحقة. لكن بين الحين والآخر يخرج أحد الأصوات ليذكّر الأسد بتضحيات العلويين، من تحملهم ظلم نظامه سنوات طويلة، وتقديمهم فلذات أكبادهم وأطرافهم، من أجل بقائه. وفي نهاية الأمر، لا يرد نظام الأسد إلا بمزيد من التفقير والإذلال، وعدم الاكتراث بكل هذه التضحيات، بل لا يقيم وزنًا لمن يضحي من أجل بقائه، ويتخلى عنهم كل مرة، من إهمال مخطوفيهم وأسراهم مقابل آخرين كالإيرانيين وغيرهم، إلى خداع عائلات الجنود حول مصير أحبائهم، وإهمال أراملهم وأقاربهم وتركهم عرضة للاستغلال والاستجداء.
آخر الأصوات الشجاعة التي خاطبت الأسد وذكرته بهذه المظالم وبحقوق الإنسان الأساسية، كان محمد، أبو علي الطير، شقيق وسام الطير مؤسس ومدير صفحة دمشق الآن الإخبارية التي لها أكثر من 2.5 مليون متابع في فيسبوك.
ففي مقابلة أجرتها صفحة شبكة أخبار جبلة، تحدث أبو علي الطير طويلًا عن معاناته لمعرفة مصير أخيه وسام، فقال، “لم نسمع عن وسام إلا من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. السيد وزير الداخلية الجديد كان قد أعطى تعليمات بأن يخبروا ذوي من يوقفونه بذلك. لأن هذا حقهم”.
تحدث أبو علي بما يتفق مع حقوق المعتقلين في المواثيق الدولية وأولها عدم إخفاء مصيرهم، والسماح للعائلة وللمحامي بالزيارة، كي لا يتحول المعتقل إلى مختفٍ قسريًا، وبالتالي يصبح عرضة للاعترافات القسرية والتعذيب وغيرها من أصناف المعاملة القاسية واللاإنسانية والحاطة بالكرامة.
أضاف أبو علي: “ذهبت للكثيرين وقرعت كثيرًا من الأبواب لكني عدت بخفّي حنين… وكأنه اختفى! علمًا أنّا على يقين أنه لدى الأجهزة الأمنية”. تابع أبو علي الطير حديثه ليوضح أسباب اعتقال وسام: “وسام أخبرني منذ حين عن ألمه لصور الشهداء المعلقة على أعمدة الكهرباء، وما يجري لذوي الشهداء من..”
ليقاطعه أحدهم قائلًا “بعض” في محاولة رقابية على حديثه، ليعود أبو علي الطير، ويؤكد أنه ليس بعض “كثير من ذوي الشهداء لم يأخذوا حقهم.. أخبرني وسام مرة عن معاناة ريف جبلة وريف طرطوس وأهل الساحل”.
أضاف أبو علي أنه نشر التالي موجهًا إياه لفريق دمشق الآن، لخذلانهم وسام وتخليهم عنه:
“يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوّم
إياكم أن تتكلموا اصمتوا وإلا تندموا”
ختم أبو علي حديثه بما يحميه من انتقام نظام الأسد: “كل الثقة بالسيد الرئيس على أنه لا يقبل بالظلم والافتراء”.
أما والدة وسام الطير، التي بكت بحسرة في أثناء المقابلة فقالت: “رحت عالشام، ما صدقت إنهم أخذوه، رحت عالشام بقيت عشر أيام.
ليلي بكي ونهاري بكي ما خلوني شوفو، الله لا يسامحن.. بيجوز من الله إنو يوقفوه هيك بدون سبب؟ الله يوفقو ويسعدو وكل غايب الله يسعدو، وكل شي مظلوم الله يسعدو، ان شالله بيرجعو كل شي مخطوفين”.

المصدر : عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى