لاتنتظرونا .. سنموت بعد قليل
هالة القدسي
“إذا مت سيكون أول ما يزعجني هو أولادي.. وكيف سيعانون بدوني ولكن أعود وأقول لهم ربي لن ينساهم فهو لطالما لم ينسني.. ولكن هناك ما سأتحسر عليه أنني لم أذهب إلى الحج أو العمرة رغم أنني أتمنى هذا من قلبي، فيا رب أدركنا برحمتك”.
بمعنويات لا يمكن وصفها إلا بالمحبطة نشرت شابة على حسابها في فيسبوك مخاوفها وأمنياتها بعد شعورها باقتراب الموت وكأن ما تبقى من حياتها أيام قليلة بدأت فيها بترتيب أولوياتها وبوح ما بداخلها قبل الوداع الأخير والارتحال إلى دار البقاء.
دفعني منشورها إلى البحث في المنشورات العامة بعد أن توحد الكابوس البشري في العالم كله لأول مرة وتساوت جوازات السفر جميعها وفاحت رائحة الموت من كل مكان.
رصدت ما يدور في رأس الناس إذا قيل لهم إن أيامهم في الحياة باتت معدودة وشعرت أن صفحة التواصل الاجتماعي فيسبوك صدقت بعبارتها (بمَ تفكر؟) نعم هو سؤال مهم الآن أكثر من أي وقت مضى بم تفكر؟ بعد أن اجتاح فيروس كورونا القاتل الكرة الأرضية.
ضغط نفسي، خوف وقلق وارتباك ورسائل مثقلة بالأسى طغت على منشورات الغالبية، وأهمها تلك التي كتبها من أصيبوا بالفيروس وهم فاقدو أملهم بالعودة إلى الحياة مجدداً، كرسالة الفنان الصيني المعروف في بلاده “تشانغ كاي” التي كتبها مودعاً قبل موته من داخل عزلة الموت بعد أن شعر باقتراب أجله كثيراً “إلى كل من أحببتهم وأحبوني.. وداعاً”.
موت قبل الموت ورسائل تعكس مرآة الحياة حيث استأذن الموت قبل الدخول هذه المرة على غير عادته، فحتى في الحروب الطاحنة كنا نرى أملاً أكبر على الرغم من أعداد الوفيات في الحروب تفوق أعداد وفيات الفيروس بأضعاف مضاعفة، فهل كانت حياتنا حلماً أيقظنا منه موت كورونا العالمي؟
يبدو أن العالم كان في غفلة، لأن الموت كان محصوراً في البلدان الفقيرة والمنكوبة بالأمراض والحروب والتي تدور فيها رحى الموت فقط على المستضعفين الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً، أما اليوم تساوينا جميعاً فكورونا الذي لم يترك مكاناً في العالم إلا ووضع فيه بصمة الموت حصد أرواح الوزراء والرؤساء والمشاهير والنجوم ولم يفرق بين أحد منهم.
منشورات إيجابية، آمال وبشائر ونصائح بالثبات وجدتها على عدة صفحات حتى من أشخاص أصابهم الفيروس، ولكنهم لم يستسلموا بل قاوموه بشدة وخضعوا للحجر الطوعي والتزموا وأوصوا غيرهم بذلك فالدعم النفسي في هذه المرحلة مهم جداً، والالتزام بالحجر الصحي خير وسيلة لإيقاف انتشار المرض كهذه الرسالة التي لم يتطرق كاتبها المصاب بالفيروس للموت ولا بكلمة بل كان منشوره مفعماً بالأمل والحياة.
“النهاردة اليوم الـ13 من بداية ظهور الأعراض.. الحمد لله أحسن كتير.. شاكر جداً لرسايلكم ودعواتكم.. فرقت معايا فعلاً، كل اللي أقدر أنصح حضراتكم بيه خدوا الموضوع بجد.. يعني التزموا بالحجر المنزلي واللي عنده أعراض يلتزم بالعزل.. علشان مصلحتكم ومصلحة أسركم.. يعني الدكاترة أخدوا أكتر من أسبوع علشان يشكوا إنها حالة كورونا ويقولوا لي اعمل عزل منزلي.. ولولا إني كنت عامل العزل مع بداية الأعراض كنت قعدت أسبوع كامل باتحرك عادي.
بخصوص العلاج.. مافيش حاجة مخصوص.. باخد باراسيتامول عشان الحرارة وتكسير الجسم.. والراحة والنوم الكتييير.. وشرب السوائل والعصائر.. ومضاد حيوي وقائي.. الأعراض بتكون أشد حاجة من اليوم التامن للعاشر.. وده اللي حصل معايا فعلاً.. في الفترة دي محتاجة اهتمام خاص.. ولو حسيتوا بصعوبة في التنفس في الفترة دي لازم تروحوا المستشفى، ربنا يحفظكم ويصرف عنكم الشر”.
أما في صفحات أخرى وجدت هروباً من الواقع واستهزاء، لكن مع أخذ الاحتياطات اللازمة والجلوس في المنزل، هكذا تغلب البعض على مخاوفهم بتبادل النكات والعبارات المضحكة كعبارة “إما البقاء في المنزل أو البقاء لله”، أو الأخبار التي تتعلق بالأزواج والحديث عن زيادة المشاكل العائلية بسبب تواجد الزوجين لفترة طويلة مع بعضهم في المنزل “أيتها الزوجات مع تنفيذ منع التجوال يعتبر الأزواج أسرى حرب عندكم فأحسنوا معاملة أسراكم”.
في زمن لا دواء فيه ضد الموت اختلفت مشاعر الناس ورسائلهم بحسب مفاهيمهم وثقافاتهم، ولكنها اتفقت على أن المصيبة كبيرة، فمنهم من قتله اليأس واستسلم مودعاً، ومنهم من رأى أنه يجب علينا أن نستجمع قوانا لتخطيها بتوصيات طبية وطرق للوقاية من الفيروس ووسائل للاستفادة من الوقت خلال المكوث لفترة طويلة في المنزل ونصائح في غالبيتها مفيدة، ولكن كل ما نشر يفتقر بنظري على الأقل إلى البوح الجريء الذي كنت قد توقعته في بداية تفشي الفيروس فثقافة الاعتراف بالخطيئة باتت شبه معدومة فلم أجد منشورات من شخص لشخص أو لجماعة يعترف فيها بأخطائه أو أنه سيغير من نفسه على الأقل إذا تخطى المحنة ونجا من كورونا حياً يرزق.
ورسائل مضمرة يخاف المرء أن يواجه العالم بها تمنيت لو أنني عثرت عليها، فلربما هذا الوقت المناسب لها تماماً وفرصة لأن تقول لجلاد كفى، وأن تقول لحاكم متسلط توقف عن ظلمك، وأن تقول لكاذب اعلم أنك مراوغ وأن تعري جرائم السفاحين… علك تموت مرتاح الضمير أو تحيا بعدها بكرامة… فكورونا يطرق الأبواب وربما نموت بعد قليل
المصدر : بروكار برس