تغيير الأدوار الجندرية في سوريا سلاح ذو حدين
لم يكن طابور النساء الطويل أمام شاحنة جرات الغاز في مناطق مختلفة من دمشق وريفها وحمل المرأة لجرة الغاز ووجهها يتلألأ بابتسامة النصر، بعد فوزها بهذه الغنيمة الثقيلة والثمينة هو المؤشر الأول لاقتحام المرأة لأدوار الرجال الجندرية المعتادة قبل الازمة السورية، ولن يكون الأخير.
ساعدت الازمة السورية طوال ثماني سنوات طوال على تقليص دور الرجل في المجتمع لأسباب عديدة ( موت – فقدان – اعتقال – مكوث في البيت خوفا من التجنيد للخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية – هجرة ونزوح ) ، ولم يبق أمام المرأة من مجال لإطعام اطفالها وتدبير أمور معيشتها سوى تعويض غياب الرجل والخروج من المنزل واقتحام سوق العمل، بالإضافة إلى أن ارتفاع الأسعار الكبير جداً وعدم ترافقه بزيادة في الأجور، دفع المرأة إلى البحث عن عمل مع وجود الزوج لتغطية هذا النقص الكبير في القوة الشرائية لليرة السورية.
ومع تناقص الفرص المتاحة لعمل النساء في المجالات النسوية التقليدية المعتادة كالعمل في الورشات الصغيرة للخياطة والحياكة وأعمال الصوف والكروشيه و تجهيز المونة المنزلية والعمل التعليمي في روضات الأطفال والعمل كمستخدمة في الورشات والشركات والأبنية، وذلك نتيجة الاشباع، ولتزايد أعداء النساء الوافدة كل عام الى سوق العمل، بدأت المرأة السورية باكتشاف مجالات وفرص جديدة لاقتحامها وخاصة أن هذه الفرص تتناسب مع المستوى التعليمي للنساء الوافدات لسوق العمل حيث أن أغلبهن لم تصل إلى مستوى الاعدادية العامة في أحسن الأحوال.
لذلك أصبح من المعتاد أن ترى امرأة في ريف دمشق تعمل عاملة تنظيف تكنس شوارع المدينة. بعضهن يخبئن وجوههن بنقاب يخفي وجهها خجلاً من ممارسة هذه المهنة، بينما تكشف أخريات وجوههن ويسرن بثقة في الشوارع ويحدقن بثبات بعين من ينظر إليهن باستغراب.
احداهن قالت لي: “ولماذا أخجل من تنظيف الشوارع؟ إنه عمل أقوم به في وضح النهار وأمام أعين الجميع. أليس أفضل من مد اليد للتسول أو أن ينام أطفالي جوعى؟”
هناك مجموعة من النساء في مدينة السويداء اتفقن على فتح وإدارة مشحم لغسيل وتنظيف السيارات. ورغم الاستغراب الكبير من سكان المدينة التقليدية في نظرتها الى النساء وأدوارهن في المجتمع، إلا أن هذا المشروع لاقى الاستحسان والتأييد من نسبة كبيرة من سكانها، لأن الواقع المزري للمعيشة في كل المدن السورية أصبح يتطلب خروج النساء إلى مختلف مجالات العمل.
وأيضا هناك سيدة تدير في ريف دمشق محلاً لبيع الأدوات الصحية، وعند سؤالها عن صعوبة عملها في هذا المجال الذكوري، أوضحت أن هذا المحل يعود لأخيها وكانت تساعده أحياناً، ولكن بعد اختبائه في المنزل خوفاً من الخدمة الاحتياطية وبقاء الاسرة من غير معيل كانت مجبرة على إعادة فتح المحل، ومع تعود السكان المحيطين على وجودها أصبحت تلبي بعض الطلبات المنزلية الصغيرة كتغيير حنفية أو اصلاح سيفون أو تسليك المجاري في المطبخ.
أيضاً لم يعد مستغرباً أن ترى امرأة تسوق سيارة خدمة تكسي في شوارع دمشق، بل إن بعض شركات السيارات في المدينة أصبحت تستخدم النساء لقيادة سياراتها لخدمة نساء أخريات يفضلن السائق إمرأة، مع التنويه إلى أنه ومن بداية الأزمة ومع تزايد عدد سكان مدينة دمشق وحدة أزمة المواصلات فيها، بات الكثير من الشابات الجامعيات يقدن الدراجة الهوائية إلى جانب الشباب للوصول إلى جامعاتهن بعد أن كان هذا الموضوع حكراً على الرجال فقط.
كما أصبح هناك الكثير من المطاعم ومحلات الوجبات السريعة بإشراف النساء فقط، فهن يطبخن ويقدمن الوجبات ويقمن بكل الاعمال التي يتطلبها هذا المجال، كما ازداد دخول النساء إلى مجالات العمل في البقاليات ومحلات الألبسة والإكسسوارات والكافيهات، وحتى محلات بيع الدخان ومحلات تصليح وصيانة الموبايلات والبطاريات واللدات حيث أصبح من النادر أن تجد محلاً فيه رجل فقط.
الكثيرات من الشابات الجامعيات اقتحمن منظمات المجتمع المدني وأنشأن مبادراتهن الخاصة ونفذن كثيراً من المشاريع التعليمية والتوعوية النسوية وغيرها بكوادر نسائية فقط، ويذكر أنه عند نزوح أهالي الغوطة وخروج السكان، وهي أكبر عملية نزوح في دمشق وريفها من حيث العدد، كانت نسبة 80% من العاملين في مراكز الايواء وكوادر المنظمات التي ساعدت في عمليات الإغاثة هن من النساء.
كما أن الكثير من المهام التي كانت حكراً على الرجال أصبحت تتولاها النساء، فهي التي تذهب لتسجيل طفلها المولود حديثاً في السجل المدني، وتقوم بتسجيل أطفالها في المدارس، وتذهب الى المحاكم لتطالب بالوصاية على أولادها. وهي التي تقوم بعمل حصر إرث وتتابع عملية نقل الملكية لاسمها، وهي التي تجول على المحلات العقارية لاستئجار منزل لها ولعائلتها، وتقوم باستخراج جوازات السفر لها ولأطفالها، وتفاوض المهرب والسمسار لضمان عملية هجرة نظامية والحصول على فيزا مزورة. وهي التي تذهب الى شعبة التجنيد وتقف بالساعات امام الطابور لتقوم بعملية التأجيل او الاعفاء من الخدمة العسكرية لأبنائها، وتدفع فواتير الكهرباء والمياه والهاتف. والآن، ومع موضة البطاقة الذكية للمازوت أصبحت البلديات تعج بالنساء المطالبات باستخراج هذه البطاقة بأسمائهن لعدم وجود الرجال.
قد ’يوصف ما آلت إليه أحوال البلد بشكل عام بكارثة إنسانية شاملة وزلزال مدمر أحرق الأخضر واليابس، وهذا صحيح بالمطلق، ولكن إذا نظرنا إليه من جهة وضع النساء، ورغم السوء الذي تعانيه النساء الآن من الإستغلال وسوء المعاملة والإبتزاز والإنهيار النفسي والعاطفي، إلا أن هذا التغيير الكبير الإجباري وهذا التفكك في بنية العائلة التقليدية المحافظة، والذي فرضته ظروف الحرب، وهذا التغير في الأدوار الجندرية، سيكون له مستقبلاً انعكاس إيجابي كبير في كسر الصورة النمطية للمرأة، وسيؤدي إلى تطور وضع المرأة في المجتمع وإلى الاعتراف بشرعية وجودها في سوق العمل وفي كافة المجالات إلى جانب الرجل، وعلى أخذها لحقوقها القانونية التي كانت محرومة منها سابقاً. ونستطيع القول إنه عندما تصل المرأة إلى مراكز صنع القرار في الأسرة ستصل إلى مراكز صنع القرار في المجتمع بأسره.
سلمى الدمشقي
المصدر: شبكة المرأة السورية
Syrian Women’s Network