وصله الصوت أولًا، كان ضجيجًا مباغتًا، دفعه لفتح عينيه والنظر حوله، وإحساس الألم يتسلل سريعًا إلى أطرافه، كان المسعف يقف فوقه رأسه ويتمتم بكلمات لم يفهمها بداية، قبل أن يتمكن من تمييز السؤال: “من أنت؟”.
إبراهيم درويش يعرف هويته، إلا أن أوراقه الثبوتية كانت من ضحايا قصف قوات النظام على بلدة معرتحرمة في ريف إدلب الجنوبي عام 2018، ولم يملك في المشفى الذي نُقل إليه، بعد أن أُصيب في أثناء عمله كناشط إعلامي بقصف روسي على محور النيرب في شباط الماضي، سوى شهادة أحد معارفه لتأكيد اسمه.
مشكلة معقدة
آلاف دون شهادات للميلاد، وآلاف دون هويات شخصية، ومثلهم بلا وثائق للزواج أو الطلاق أو الوفاة أو الملكية، بعضهم لم يتمكنوا من الحصول على تلك الوثائق أصلًا، وآخرون فقدوها خلال سنوات الحرب والنزوح.
إبراهيم درويش الناشط الإعلامي من معرتحرمة، قال لعنب بلدي إنه يسعى للحصول على وثيقة تثبت زواجه، بعد أن أصبح لديه ثلاثة أطفال دون قيد، ليتمكن من إثبات هويته عند مروره على الحواجز الأمنية داخل إدلب، وعند المرور إلى مناطق السيطرة التركية شمالًا، مشيرًا إلى ما يمثله فقد الهوية من مشاكل متعددة يصادفها يوميًا.
عدم وجود وثائق شخصية يعني “لا وجود للشخص بالمعنى القانوني”، حسب تعبير المحامي غزوان قرنفل، الذي قال لعنب بلدي، إن عدم تسجيل وقائع الوفاة أو الولادة أو الزواج أو الطلاق يعني عدم حدوثها بالمعنى القانوني وينفي أي “مترتبات عليها”، وهذا “أمر خطير”.
المطلقة لا تستطيع الزواج مجددًا دون توثيق الطلاق، وعائلة المتوفى لا تستطيع الحصول على الإرث دون تسجيل الوفاة، والمهجرون والنازحون لا يستطيعون المطالبة بأملاكهم دون عقودها القانونية، “غياب الوثائق الرسمية يحرم الناس من حقهم القانوني في إتمام كل الإجراءات الشخصية المتعلقة بحياتهم اليومية”، حسبما قال قرنفل.
تنتشر مشكلة غياب الوثائق في الشمال السوري، كما يرى مدير فريق “منسقو استجابة سوريا”، محمد حلاج، إذ قال لعنب بلدي، إن الفاقدين لأوراقهم الثبوتية يسعون لإصدار أي وثيقة من الجهات المحلية أو يضطرون للجوء لعملية التزوير، “وهو ما يشكل خللًا بعمليات الإحصاء والإغاثة” بشكل أساسي.
وقال حلاج، إن غياب التوثيق أدى إلى انتشار التزوير، الذي صادفه فريق “منسقو استجابة سوريا” مرارًا عند محاولة إحصاء الأعداد والاحتياجات في إدلب، وهذا ما يعوق الحصول على أرقام دقيقة للسكان أو للاحتياجات أو توجيه الدعم المناسب.
ويؤدي غياب الوثائق إلى “تقاطع” بأعمال المنظمات الإغاثية، حسبما قال مدير مجموعة “هذه حياتي” التطوعية في إدلب، سارية بيطار، لعنب بلدي، وأشار إلى أن بعض العائلات تستفيد من أنشطة ومساعدات أكثر من منظمة ومجموعة تطوعية، في حين تفقد عائلات أخرى فرصة الحصول على حقها بسبب تضارب المعلومات وغياب مركزيتها.
وتعتمد المنظمات الإغاثية، حسبما قال بيطار، على الكشف والتدقيق والتحري لتوثيق المستفيدين، وهو ما يتطلب وقتًا وجهدًا حتى تتمكن من الثقة بالمعلومات التي حصلت عليها من العائلات والأفراد.
كيف يكون التوثيق؟
تخضع مناطق شمال غربي سوريا لسيطرة حكومتين، لا تملكان صفة شرعية، هما الحكومة “المؤقتة” في مناطق النفوذ التركي، وحكومة “الإنقاذ” في إدلب.
عملت الحكومة “المؤقتة” على إصدار هويات شخصية عبر مجالسها المحلية، بينما لم تقم “الإنقاذ” بخطوة مشابهة، وعند محاولة عنب بلدي استيضاح الأسباب والعوائق والخطط المتعلقة بشأن التوثيق من “الحكومة” المسيطرة في إدلب، لم تحصل على إجابة حتى وقت إعداد التقرير.
بإمكان أي سلطة رسمية معالجة ما حصل في سوريا من ضياع للوثائق عن طريق اتخاذ بعض الإجراءات البسيطة لإثبات صحتها، حسبما قال المحامي غزوان قرنفل، مشيرًا إلى أن سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لا يملكون حاليًا حلولًا قانونية لمشكلة التوثيق سوى اللجوء إلى أقارب أو وكلاء قانونيين لاستخراج أوراقهم.
ويرى مدير فريق “منسقو استجابة سوريا”، محمد حلاج، أن هناك حاجة “ماسة” لأن تقوم جهة واحدة بإصدار بطاقات الأحوال المدنية كاملة، من جوازات السفر أو البطاقات الشخصية أو البيانات العائلية ليحصل السكان على نوع من الاستقرار في إدلب، مشيرًا إلى آلاف النازحين الذين فضلوا البقاء تحت شجر الزيتون على العودة إلى مناطق النظام السوري، وتحمل التبعات المترتبة على ذلك من الملاحقات الأمنية.
وقال مدير مجموعة “هذه حياتي” التطوعية في إدلب، سارية بيطار، إن الهويات يجب أن تحمل بصمة للإبهام أو للعين كي لا تكون سهلة التزوير، وهو ما يسهل عمل المنظمات وتوزيع المواد الإغاثية، ويضمن حقوق السكان.
المصدر : عنب بلدي