التحقيقات

آخرُ قلاعِ دمشق الثائرة

الغوطة الشرقية تلك البقعةُ الصغيرةُ التي كانت تشتعلُ العام الماضيَ بدءاً من شُباط تحتَ نيرانِ النظامِ وحُلفاءه الروسِ مستخدمينَ أعتى الأسلحةِ لقتلِ أكبر عددٍ من المدنيين الأبرياء بعددٍ جاوز ال 100000 إنسانٍ عاشوا بدءاً من عام 2013 حصاراً قاسياً كان طعامُهُم لشهورٍ خلالهُ خُبزَ الشعيرِ وأعلافَ الحيواناتِ دونَ أن يستسلموا ويرضَخوا للنظام وجبروته، فعاندوا خلال تلكَ السنين آلافَ المُقاتلين والمرتزقةِ والصواريخِ التي أتت من كل حدبٍ وصوبٍ لتقضيَ على عزيمتهم وتوهِنَها، ولكنَّها لم تزِدهُم إلَّا قوةً وإيماناً بأحقيَّةِ ثورتِهِم وعدالتها، فسَطَّرُوا البطولات في تلك الأراضي الخصبة.

صمدتِ الغوطةُ تلك السنونَ العجافَ كلَّهَا تحتَ القتلِ والتجويعِ الذي لم يتوقف، وودعتِ الآلافَ من شبابها وأطفالِها، ودُمِّرَ فيها ما جاوز ال 70% من الأبنية والبنى التحتية، وعادت الحياةُ فيها لاستخدامِ ما كان للأجدادِ من وسائلَ في استخراجِ الماءِ وتوليدِ الكهرباء وما إلى ذلك من وسائلَ كانت من الماضي، صمَدُوا أملاً بفرجٍ أو هُدنةٍ تكُفُّ يدَ القتلِ عنهم وتعينهم في حياتهم بعيداً عن البطش، راضينَ بالقليلِ دون أن يخرجوا من مسقطِ رأسهم.

لكن ذلك لم يحصُل نهايةً؛ ارتفعت وتيرةُ القصف بشكلٍ كبيرٍ بشتى أنواعِ الأسلحةِ دونَ توقفٍ، بدءاً من أواخرِ شُباطَ الأسودِ من عام 2018 حتى منتصف آذار الذي تلاهُ ولم تذُق حينها بلداتُ الغوطة دون استثناءٍ أي راحةٍ، تزامُناً مع بدءِ كتائبِ النظام التقدمَ في (النشابية – حزرما – حوش الصالحية – المحمدية – أوتايا) وهي بلداتٌ كانت تُشكِلُ حدود الغوطة مع قوات النظام، لتسقُطَ هذه البلدات تحت استراتيجية الأرضِ المحروقةِ التي لا تُبقي لا حجراً ولا بشر، ويُنادَى في قبضاتِ أجهزةِ اللاسلكي أن تلكَ المناطقَ أصبحت عدو، فيُهجَّرَ أهلُها إلى المناطق الأكثرَ عُمقاً في الغوطة بدءاً من (الأشعري والأفتريس) والتي كانت خط القتال (خط الجبهة) ذاك الحين وصولاً إلى عُمقِ الغوطة، فبدأت المناطقُ تكتظُ أكثر بنازحينَ لم يستطيعوا أن يحملوا معهم أيَّ شيء سوى أرواحهم، لجأوا إلى بلداتٍ ميزتها عن منازلِهِم أنها كانت بعيدةً عن تحرُكِ النظامِ على الأرض لكنَّها ما تزالُ تحتَ القصف.

اخترقَ النظامُ في الغوطةِ أكثرَ حتى سيطرَ على (حمورية ومسرابا) وهي تكادُ تكون مُدمَرَةً بالكاملِ مُهَجِّراً سُكانها إلى ما بقيَ مُحرراً من أراضٍ بعدَ أن سيطرَ أيضاً على (الريحان – الشيفوينة – مديرا – بيت سوا) مروراً بـ (كفربطنا وجسرين) اللاتي صمدَت حتى بدايةِ آذار قبل أن تسقُط، ومن ثمَّ توقف النظام عن التقدُم حينما قسَّمَ الغوطة الشرقيةَ إلى ثلاث قطاعاتٍ في منتصف شهر آذار، تعاملَ مع كلٍّ منها على حدا فأصبحتِ الغوطةُ يوم 23/03/2019 على أول عمليةٍ من عملياتِ التهجيرِ القسري من مدينة حرستا والتي كانت عبارةً عن دفعتين بمجموع 5204 مُهجَّرَاً وصلوا إلى (قلعة المضيق) التابعةِ لريف حماة، أولِ المناطقِ التي كانت تحت سيطرةِ الفصائلِ الثورية في الشمال السوري، وبعدها بيومين 25/03/2019 بدأ تهجيرُ ما بقي مما يدعوهُ أهالي الغوطة القُطاع الأوسط (عربين وسقبا) ومعهُم أهالي (زملكا وعين ترما وجوبر) ومن نزحَ إليهم من المناطق التي سيطرَ عليها النظامُ سابقاً فيخرُجَ حوالي ال 40895 شخص نحو الشمال السوري أيضاً على ثماني رحلات قُسِّمَت في 12 مرحلة، كانوا في تلك المنطقة الصغيرة جداً دون مأوى ولا غذاءٍ يصلُهُم ولا عنايةٍ طبيةٍ تداوي جريحَهُم، ولا فِرقَ إنقاذٍ تنتشلُ أجسادَهُم، مُجتمعينَ في الأقبيةِ والمساجدِ بأعدادٍ كبيرةٍ دون مصيرٍ معلوم.

لم يبقَ سوى مدينة (دوما) تحت سيطرةِ المعارضة، فبدأ عصرَ الجمعةِ 6 من نيسان قصفُ النظام دونَ توقفٍ عليها تحت تغطيةِ البثِ المباشرِ لقنواتِ النظامِ لِمَا دعَوهُ قصفَ معاقِلَ إرهابيين، ومن ثمَّ خُتِمَ ذاك القصفُ باستهدافٍ بالسلاح الكيماوي مساءَ السبت 7 نيسان للقابعينَ في الأقبيةِ هناك فسقطَ في ذلكَ اليومين المئاتُ من الشهداء، واختُتِمَ بعدها ذاك القصفُ باتفاقِ تهجيرٍ لأهالي المدينة خرجَت فيه 10 قوافلَ كانت قد بدأت في الأولِ من نيسان في (اتفاقٍ أوليٍّ) ومن ثمَّ توقفَت لتُكملَ بعدها بدءاً من 8 نيسان حتى خرجَ في المجموع 20278 من السُّكانِ إلى مدينةِ (الباب) في ريف حلب الشمالي، وبذلكَ أغلقَ النظامُ ملفَ الغوطةِ آخرِ قلاعِ الثورةِ مُحيطَ دمشقَ بأبشعِ المجازرِ التي حصلت خلال أحداثِ الثورة، وبدأَ الثائرونَ حياةَ التهجيرِ مُنتَشرين في جميعِ مناطقِ الشمال بين إدلب وريفها وريف حلب.

بوصولهِم إلى الشمالِ السوري استقروا بدايةً في مخيماتِ ريف حلب الشمالي وإدلب، ومن ثمَّ بدء البعضُ منهم بالخروجِ إلى منازلَ في (أعزاز والباب ومعرة النعمان وأريحا) وغيرها من المناطق المحررة وكثيرون ذهبوا إلى (عفرين) المُحررة حديثاً؛ فهناكَ الإيجاراتُ في العموم بالنسبةِ للأهالي المُعدمين ماديَّاً أقلُ بكثيرَ من مناطقِ الشمال الأخرى، وتأسيسُ عملٍ هناكَ أسهلُ أيضاً، فبدأَ بعضُ المُهجرين بالعمل لإعالة نفسِهِ وعائلتهِ؛ فهم قد خرجوا من غيرِ شيءٍ بحوزتِهِم وعليهمُ البدايةُ من الصفر والمُضيَّ من جديد.

بعد قدومِ الشتاءِ بدأت معاناة الأهالي في المخيماتِ تزدادُ كونَ البنية التحتية للمخيماتِ غير مُجهَّزَةٍ نهائياً، فانتقلَ بعضُ الأهالي إلى منازلَ ساعدهم في استئجارها بعضُ المؤسسات والجمعيات الأهلية، ولكنَّ الكثيرينَ لا يزالونَ يقبعونَ تحت معاناةِ المخيماتِ إلى الآن مُنتظرينَ مصيراً مجهولاً سواءَ لمناطقِ الشمال السوري كإدلب التي تتعرضُ للقصفِ الآن، أو عمّا إن كانوا سيعودون إلى ديارهم هناكَ حيثُ تركوا جميعَ ذكرياتهم وكثيراً من أحبابِهم على أملِ اللقاءِ بهم من جديد.

– بقلم: محمد سلام

– التحقَ أهالي الغوطةِ مع انتهاء يوم 14/04/2018 بالمهجرين من ريف حلب ودير الزور وداريا والغوطة الغربية ومن ثمَّ تبعهم أهالي حمص ودرعا وأحياء دمشق، ليُصبح الشمالُ السوري جامعاً للفسيفساء السورية الثائرة، حاملاً حُلمَ الكثيرين بأن تجتمعَ هذه الفسيفساء في ساحات دمشقَ وحلب مُنتصرةً قريباً بإذن الله.

مصدر الإحصائيات: الدفاع المدني السوري في ريف دمشق

 

2019-03-25

المصدر: مدونون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى