مبادرة فردية لإحياء “المدن الميتة” السورية
تضم الجغرافيا السورية 800 موقع تاريخي أثري، لازمها اسم “المدن الميتة” (أو المنسية)، وتتركز في شمال غربي سوريا، وتتوزع هذه المواقع في نطاق حلب وإدلب وحماه.
في تلك المنطقة الجبلية، بين ثلاث محافظات سورية، تتناثر أعداد هائلة من قرى ومدن مهجورة، تبدو جدرانها من بعيد كأشباح معزولة على القمم الجبلية، وعلى السفوح والوديان.
تتربع هذه المواقع الأثرية فوق هضاب الكتلة الكلسية الممتدة على مساحة قدرها 120 كيلو مترًا مربعًا، بين حلب شرقًا، ونهر العاصي غربًا، وشكلت التجمعات الأثرية، أو ما يعرف بالباركات الثمانية في محافظتي إدلب وحلب، مساحة ضمت عشرة آلاف نسمة من السكان قديمًا.
تتميز تلك المدن بأنها بنيت وفق أسلوب معماري واحد، أُطلق عليه اسم “فن العمارة السورية“، تمييزًا عن فن العمارة الكلاسيكية اليونانية والرومانية، وهي بهذا تستحق الحفاظ عليها لالتصاقها بالتاريخ السوري.
تذكير بصورة مختلفة
تبرز عدة مبادرات من قبل منظمات مدنية أو فردية تهتم بدراسة هذا القطاع والحفاظ عليه بمختلف الطرق، وتذكير الناس فيه، كونه يملك الذاكرة الجمعية السورية، التي بالإمكان التعويل عليها لإنهاء النزاع المسلح.
ابتكار العديد من اللوحات الفنية التي تحمل في أغلبها تمثيلات مختلفة من صور “المدن الميتة” في سوريا، كان أساس مبادرة الصحفي السوري في إسطنبول أغيد شيخو، من أجل شد انتباه الجمهور نحو التراث الثقافي المادي، عن طريق تلك اللوحات التي تعكس مواقع ميدانية تعاقبت عليها حضارات لمئات الأعوام.
يعد التاريخ امتدادًا لحاضر الأفراد، كما أن حاضرهم هو امتداد لمستقبل مجهول المعالم في أغلب الأحيان، وبالتالي فإن التاريخ هو “امتدادنا الذي، وإن تُهنا عنه قليلًا، فإننا لا يمكن أن ننفصل عنه”، وفق ما قاله الصحفي شيخو لعنب بلدي، وهذا الامتداد يلزم الأفراد على فهم تاريخهم.
الاهتمام بهذا الامتداد لم ينقطع عند شيخو منذ عمله بالمجال الإعلامي، رغم أنه أخذ أشكالًا مختلفة، فكان على شكل سرد للسيرة الذاتية لشخصيات تاريخية عاشت خلال حقبة ما، وتحولت لاحقًا إلى لقاءات وحوارات مع مهتمين بالتاريخ، وأخيرًا “تجسدت تلك المعرفة على شكل صور وأشكال معينة منذ نحو عام أو أكثر، حينما وجدت أنني خطوت خطواتي الأولى نحو امتلاك الحدود الدنيا للتقنية اللازمة لطرح لتلك المعرفة بأسلوب جديد”.
يختار شيخو صورًا منشورة عبر شبكات الإنترنت لمواقع تنتمي لمجموعة “المدن الميتة”، ويحولها إلى لوحات عبر برنامج “فوتوشوب”.
تعتمد مضامين ما يتم طرحه في اللوحات على ما يفرضه الموقع أو النسخة الأساسية من الموقع المراد العمل عليه، و”يقتصر عملي هنا على إعادة صياغة شكل موجود مسبقًا، ضمن إطار يأخذ اتجاهًا أكثر وضوحًا للمتلقي”.
قد يتحول الموقع الأثري في لوحات شيخو إلى تمثيل لكائن بشري، أو طائر، أو أي شكل بإمكان الشخص ملاحظته في التصميم.
وصمم شيخو إلى الآن أكثر من 15 لوحة فنية لمواقع أثرية ضمن مجموعة “المدن الميتة”.
يعد ذلك النشاط “محاولة لإعادة خلق مجموعة من الحجارة المبعثرة، والتي قد لا توحي بأي شيء أو أي ملامح، إلى شكل واضح بالنسبة للجمهور، وهو الجانب الأصعب من (المدن المنسية) التي قد لا تجد لبعضها سوى صورة واحدة توثق ملامحها، وتكون في أغلب الأحيان ذات دقة منخفضة ومن زاوية واحدة لا أكثر”، وفق ما قاله شيخو.
يملك شيخو قناعة تامة بأن العمل الذي يقوم به منذ العام الماضي ذو أهمية عالية في سياق المحافظة على “المدن الميتة”، ضمن توظيف مهاراته في طرح هذه المدن بالمفهوم الذي يراه مناسبًا، ويجب أن يزداد الاهتمام بتلك المدن من قبل أي شخص يملك مهارات فنية إبداعية، بصرف النظر عن اختلاف الأدوات التي قد يستخدمها، سواء أكانت نحتاً أم تصويرًا، أو حتى من خلال مقاطع الفيديو.
ولن تختلف المساهمة عبر المبادرات الفردية في رفع الوعي تجاه هذه المدن، وغيرها من المواقع التاريخية السورية، عن المساهمة المنوطة بالمؤسسات والمنظمات، غير أن في الثانية اختصار للجهد والوقت، من خلال الاعتماد على مجموعة أكبر من الكوادر المشتركين في الاهتمام ذاته، أو ممن يملكون الأدوات التي بالإمكان استغلالها في مخاطبة الوعي العام، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في طرح مكثف ومتنوع أكثر خلال وقت قياسي.
المصدر : عنب بلدي