الراقص في فم الموت في الذكرى السنوية الأولى لرحيل حارس الثورة
زياد السباعي – صدى المجتمع المدني
بثوبه الأبيض ممدداً بانتظار مثواه الأخير ،كانت أمه المتشحة بسواد الحزن تتلمس جبهته تقبل لحيته قائلة … “الله يسامحك يا بني” “مأواك الجنة يا حبيبي” … هذا المقطع، الذي يقتلع القلب من شرايينه ذكرني بأولى مشاهد وداعات الأمهات للأوائل الشهداء في قافلة الثورة التي شهدها وعاشها عبد الباسط مراراً وتكراراً في عائلته وأخوته وأصدقائه ورفاق دربه.
من هنا قد نستطيع أن نفهم كيف لذلك الفتى الأسمر حارس مرمى نادي الكرامة الحمصي ومنتخب سوريا للشباب، المولود عام 1992 البدوي الجميل، صاحب المروءة والكرامة الذي لا يرضى الذل له ولا لغيره أن يعتنق نهج الثورة ضد الظلم والطغيان وأن يعرف تماماً ماذا يريد من ثورته وكيف يريد لوطنه وشعبه أن يكون حراً كريماً متسامحاً … منذ أول ظهور له كمنشد للثورة في اعتصام ساحة الساعة بحمص عندما اعتلى أكتاف المتظاهرين ووجهه مكشوف للكاميرات متحدياً أكثر الأنظمة الشمولية بشاعة وهو يغني اسمع اسمع يا قناص هذي الرقبة وهذي الراس،
ومن بعدها تتالت قيادته للمظاهرات فكان يشرح ببساطة معنى الوطن والمواطنة بكلمات أغانيه : جنة جنة جنة … جنة يا وطنا … يا وطن ياحبيب يابو تراب الطيب … حتى نارك جنة. كان يغني للجميع ويجمع كل ماكان يحاول النظام القمعي العبث به طوال سنين بين ريف ومدينة، بين دين وآخر، طائفة وأخرى وحتى بين الحارات والنوادي الرياضية … كان يغني لسوريا كلها متوحداً بين مايؤمن به وبين مايغنيه فتمتلئ روحه وكل من حوله بالشجاعة والأمل، تنقلت أغانيه وأهازيجه على أفواه كل من آمن بروح الثورة في كل المدن والمناطق السورية ..
.(ارحل صرخة الشجعان صرخة حضر مع عربان صرخة لكل الأديان صرخة سوريا وترابا) … ورددت من ورائه الجماهير في كل المدن السورية تناشد بعضها بعضاً … يا إدلب يادرعا ياحلب يا رقة يا حسكة ياديرالزور ياقامشلي ياشام ياحماه يابانياس يالاذقية ياحمص… حنا معاكي للموت من يتتبع مسيرة عبد الباسط يعرف أنه من البدايات لم يكن آمناً فخلال الثورة لم يكن متظاهراً عادياً بل كان استثنائياً بكل المقاييس فكل من شارك في بداية الثورة كان يدرك مدى الخطورة التي تلحق بالمتظاهرين فكيف وأن عبد الباسط ذو التسعة عشر عاماً في وقتها كان أحد رموز وقيادات الثورة السلمية في مدينة حمص
وهوالشخص الذي ينقل صوت الثورة منها إلى كل المدن السورية. عبد الباسط الذي لم يكن يوماً منتسباً لأي حزب ودون أي خبرة سياسية لم يكن بتصرفاته اعتباطياً بل كان يعي حجم المسؤولية والرسالة التي يريد ايصالها بطريقته الخاصة وبالفعل لا بالتنظير، حاول بعفويته وفطرته الوطنية النقية أن يغذي الوعي الوطني للثورة ويوضح للجماهير كيف يجب أن يكون توجهها ومسارها الصحيح في سلميتها فوقف على منابر المظاهرات كتفاً بكتف مع الفنانة الراحلة فدوى سليمان يغنون ويهتفون للثورة والحرية والكرامة، هذه الوقفة برمزيتها لم تكن فقط رداً وطنياًعلى فئوية النظام المافياوي واستغلاله لتنوع النسيج السوري وليس لدفع تهمة الطائفية عن الثورة بل لتعزيز روحها ووطنيتها وجندرتها في مواجهة الظلم وسعياً لإسقاط نظام الطاغية وبناء بلد حر كريم قائم على التسامح والاحترام والعدالة الاجتماعية واختصراها بهتافهم معاً واحد واحد واحد … الشعب السوري واحد
شيع عبد الباسط خمسة من أخوته واثنين من أبناء أخته وأخواله ،والكثير الكثير من رفاق دربه في المرحلة السلمية للثورة وفي مرحلة حصار حمص القديمة ومن بينهم صديقه باسل شحادة الذي تزامنت ذكرى استشهاده هذا العام قبل ذكرى استشهاد الساروت بأيام معدودة … لكم أن تتخيلوا كم كان تأثير عودة باسل من دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية إلى وطنه ليشارك في ثورة الحرية والكرامة واستشهاده على ضمير عبد الباسط الحي ومدى ضخامة المسؤولية التي كانت تكبر شيئا فشيئا تجاه الثورة وشهدائها في قلب الساروت،
وفي تشييع الشهيد باسل بكنيسة أم الزنار في حي الحميدية أحد أحياء حمص المحاصرة غناه الساروت بكلماته … بدنا نفرح بزيادة باسل نال الشهادة … يا يما بثوب جديد زفيني جيتك شهيد … حاملاً لافتة يايسوع يايسوع عن ثورتنا مافي رجوع … فرسم لنا بحنجرته من داخل أحياء حمص لوحة الثورة الحق ليتردد صداها في كل المدن السورية،
و بإحساسه العالي ووعيه الفطري استطاع أن يرأب صدعاً حاول النظام القمعي في سورياً أن يشرّخه لعشرات السنين بين السوريين ، وأعاد صوته الإنتماء الحقيقي للوطن سوريا (نعم سوري أنا وإنتِ أهل لي … بلادي كافي بدمعك تِهِلي … لأجل حريتك بالموت أهلّي … لأن روحي ألك أصغر هدية) لم يستسلم الساروت للظروف المحيطة وضغط النظام الوحشي على سلمية الثورة، ولم تخرجه هذه الظروف من إيمانه بها مما دفعه ورفاقه إلى حمل السلاح أولاً لحماية التظاهرات وبعدها لحماية أنفسهم وعائلاتهم بعد الحصار الذي فرضه النظام على حمص القديمة
ومع أنه في هذه المرحلة تدخلت الكثير من الجهات الأخرى لعسكرة الثورة إلا أنه كان دائماً مايردد أن طريق السلمية كان خيارهم الأول وأن هذه الثورة من الشعب وللشعب ولم يشكل قوة أمر واقع على الناس وحاول جاهداً أن يكون مستقلاً وغير محسوب على أي توجه أو جهة تستغل الثورة ولم يحرف بوصلته التي ظلت وجهتها رفع الظلم ومساعدة الناس وتجلى ذلك في حادثة المطاحن عند محاولته كسر الحصار وجلب أكياس الطحين من المطاحن إلى حمص المحاصرة والتي خسرعلى أثرها الكثير من رفاقه وأخوته.
خروجه ورفاقه مهجراً مكرهاً من حمص القديمة أولاً ، الإنكسار والتهجير والإعتقال بعد خروجه من قبل جبهة النصرة وإهانته لمدة سبعة وثلاثين يوماً في منفردة ثانياً ،كان كفيلاً بأن يثني أي شخص عن آماله وخصوصاً بعد أن أجبر بأن يخرج من ريف حمص إلى إدلب والعبور فقط عن طريق المناطق التي تسيطر عليها داعش مما أثار في عبوره منها، الكثير من الجدل والإنتقادات كما ألحقت به تهمة الإنتماء إليهم، وعند وصوله إلى الشمال السوري، حوصر ولوحق وطلب منه الانضمام إلى مجموعات جهادية عدة ولكنه آثر الخروج إلى تركيا على أن يكون طرفاً في سلاح لايكون وجهته حماية المدنيين ومواجهة النظام الوحشي والمرتزقة التابعة له.
وصل عبد الباسط إلى تركيا وعمره أربع وعشرون عاماً حيث كان بإمكانه أن يعيش حياة مريحة عندما قدم له الكثير من المغريات وعشرات العروض من جهات سياسية وحتى دولية ليكون جزءً من أجندتها … ولكن في داخل الساروت إحساس عال بالمسؤولية تجاه الناس فكيف له وهو الذي هتف بالناس وجذبهم إلى الثورة أن يتخلى عنهم، عاد عبد الباسط حارس الثورة إلى الداخل السوري ليلتحق بمن يؤمن بإنتمائه إليهم وكان دائما مايقول لرفاقه هل دماء الناس والشهداء التي ضحوا بها في سبيل الثورة رخيصة ودمائنا غالية علينا ؟ ألسنا نحن من قلنا لهم تعالوا معنا إلى طريق الثورة ونحن وراءكم وأغانينا وخطاباتنا ملأت حناجرهم ؟ ورغم كل الانتكاسات التي مرت بها الثورة
إلا أن عبد الباسط وصل إلى مرحلة عالية من نكران الذات ودرجة أعلى من الوعي وكان على دراية تامة بالاتجاه الذي كان يريد أن يذهب إليه فهو لم يطلب قيادة أو منصب أو شهرة في الوقت الذي تطور وعيه الفكري والثوري وشحذت خبرته خلال مسيرته المرهقة في سنوات الثورة، لم يصبه اليأس والإحباط منها أبداً بل كان دائما يقول أن هذه الثورة هي ثورة شعب كامل وليست ثورة قادة وفصائل وأجندات لا تمت للثورة بانتصاراتها أوهزائمها …
ومع أن عبد الباسط كان متصالحاً بوضوح مع هويته الدينية إلا أنه لم يرفع بندقيته تحت راية غير راية الثورة، ومثل واقع الثورة بكل بهائها وارتجاليتها ووهنها إلا أنه وضّح قناعاته الثابتة بأكثر من تسجيل … ( نحن لا نرضى بالطائفية وديننا لا يسمح لنا أن نكون طائفيين ولا يسمح لنا أن نؤذي أي أحد مهما كان عمره من أي دين أو مذهب أو عرق وكل الناس تعرف ثورتنا … “ثورتنا ضد عصابة مجرمة … نحن لسنا بإرهابيين، نحن لسنا بمتشددين، نحن واضحين ”
طلعنا بهذه الثورة مع كل أخوتنا من كل الأطياف بالصدور العارية من أجل هذه الثورة والآن يحاربنا العالم أجمع… كل إنسان قدم لهذه الثورة من دول وغير دول نحطه على عينا وراسنا وكل إنسان بده يضر ثورتنا نوقفله إحنا … أنا بعمري لم ينقطع الأمل عندي فمادام في ناس لديها مبدأ، وشخص واحد بسوريا عنده كرامة يؤمن بقضيته ويضحي من أجلها فالثورة مستمرة والأمل مستمر”. لم يزايد بثوريته على أحد بل أحرج الكثيرين ممن أعتلوا ظهر الثورة واستطاع عبد الباسط بصدقه وذكائه وفصاحته الوصول إلى قلوب وعقول الناس البسطاء وفي نفس الوقت أوصل رسائل الثورة مباشرة إلى كبار الساسة واللاعبين الدوليين في الساحة السورية دون أن ينحاز لأي جهة غير جهة ثورة الحرية والكرامة.
عندما سأله أحد أصدقائه في حمص المحاصرة وهو يسجل له فيديو … فلنفترض أنك الآن خطبت وكتبت كتابك على فتاة ماذا تحب أن تهديها لخطيبتك بكلمتين غزل حلوين ؟ فأجابه: ( بدي قولها يا بعد قلبي … الموت حق و أنا بدي حقي )
في شهر حزيران من عام 2019 قامت قوات نظام الأسد بشن قصف عنيف على قرية تل ملح بريف حماه بالتزامن مع محاولة عبد الباسط وزملائه صد الحملة العسكرية الشرسة التي شنها نظام الأسد للسيطرة على ريفي حماة وإدلب واستشهد عبد الباسط نتيجة هذا القصف.
في الذكرى السنوية الأولى لرحيل حارس الثورة، حيث قام مئات الآلاف من السوريين في الداخل السوري وفي ساحات المدن حول العالم وعلى منصات التواصل الاجتماعي بإحياء ذكرى استشهاده، قد تكون الثورة تتذكر الساروت في نفس التوقيت مع انطلاق المظاهرات في الذكرى الأولى لاستشهاده في مدينة السويداء وحناجر المتظاهرين تصدح بأغانيه وأهازيجه لتجدد العهد له ولكل شهداء الثورة السورية.
إن اختيار عبد الباسط كأحد أبرز رموز الثورة السورية ،لم يكن بقرار من نخب مثقفة أو سياسية متعالية تحمل فكر الوصاية على الشعوب بل كان بقرار شعبي على مستوى كل السوريين ومناصري الثورة السورية من كل الأطياف في سوريا وبلدان اللجوء والمهجر أصدقائه وجمهور الثورة يلقبونه بحارث الثورة السورية وبلبل الثورة كما يسميه أهلها … الساروت الذي يشبه هذه الثورة اليتيمة … يشبهها بنقائها بصفائها وشجاعتها. بالنسبة لي لا أستطيع أن أشبه عبد الباسط الساروت بأي بطل شعبي أو ثوري … عبد الباسط يشبه نفسه فقط. عبد الباسط منذ اللحظة الأولى للثورة وحتى استشهاده كان كالراقص في فم الموت في سبيل ثورة الحرية والكرامة.ٍ