من بين المصطلحات المتداولة بإفراط في السنوات الأخيرة بالمغرب، مفهوم أو مصطلح ” المجتمع المدني”، ويكاد هذا الأخير يمثل أحد أهم المصطلحات في المعجم السياسي المغربي المعاصر، من حيث كثافة الاستعمال، بجانب مفاهيم أخرى: “دولة الحق والقانون، الديمقراطية، حقوق الإنسان، المواطنة…”
قبل ذلك يجب أن نشير في عملية تتبع مسار وتطور المجتمع المدني في المغرب، إلى أن المغرب عرف في تاريخه تجريب واسع النطاق في مجال المشاركة الاجتماعية والنسيج الجمعوي، عبر تنظيمات اجتماعية أهلية، تشغل وظائف (اجتماعية، سياسية، تربوية، ثقافية، قضائية، نفسية ..)، ما يجعلنا انطلاقا من هذه التنظيمات أمام مجتمع مدني غير أوربي انطلاقا من التأكيد على وجود تنظيمات محلية كانت تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي عن السلطات المخزنية كالتكتلات القبلية والزوايا…، إلى جانب وجود أشكال متعددة من العمل الجماعي التطوعي الإرادي بين أفراد المجتمع المغربي ك ” التويزة” وعملية ” الوقف” على سبيل المثال لا الحصر. قامت هذه التنظيمات بدور الوسيط بالمعنى المنطقي للكلمة بين السلطة والمجتمع.
هكذا كان المغرب قبل 1912 ( سنة توقيع الحماية) ينتمي بكل مؤسساته إلى الماضي، حتى ثم توقيع الحماية، وانطلقت عملية ” التهدئة” والاحتلال العسكري والثقافي للمدن والبوادي، كما سارت هذه العملية جنبا إلى جنب مع عملية غرس النظم والبنيات “الحديثة” في المجتمع المغربي، على مستويات مختلفة، في أفق صريح يهدف لغرس الاستعمار وتعميقه.
هذا ما سيجعل العمل المؤسساتي المنظم للمجتمع المدني المغربي، يرتبط ظهوره بالبدايات الأولى للقرن 20م وخصوصا المرحلة الاستعمارية التي انتقل فيها المجتمع المغربي إلى مرحلة جديدة، انتقل من خلالها من إطار مجتمع ” قبلي عشائري” إلى مجتمع “حداثي”، فالحديث عن تطور المجتمع المدني في المغرب لن يستقيم بإغفال هذه المرحلة التي عرفت بروز العمل الجمعوي والحزبي والنقابي بمفهومه “الحديث” للكلمة.
يمكن أن نقول عموما بعد هذه المرحلة، أن المجتمع المغربي مجتمع مركب نظرا لكونه مزيج من الثقافات ( العربية، الأمازيغية، الصحراوية…)، كما أنه عرف تداخل حضارات متنوعة إسلامية وأخرى أوربية فرضتها ظروف الاستعمار، وهو الأمر الذي انعكس على تنظيماته الاجتماعية التي شكلت القاعدة الأساسية لتكوين مجتمع مدني مغربي.
فالحديث عن المجتمع المدني في المغرب المستقل لن يتم بمعزل عن الحديث عن علاقته بالدولة، بما أن مسألة تحقيق مجتمع مدني فاعل رهين بمدى ممارسة الحرية الفردية وتحرر الفرد من هيمنة سلطة الدولة، هو الأمر الذي يجعل تحديد واقع المجتمع المدني بالمغرب مرتبط بمدى علاقة الفرد بالدولة، وطبيعة هذه العلاقة، فهكذا شكل ظهير الحريات العامة 1958 الإطار العام المنظم لعمل جمعيات وتنظيمات المجتمع المدني، إلا أن هذه العلاقة ظلت رهينة بالأوضاع السياسية التي عاشتها الدولة المغربية، هذا ما يستدعي ضرورة تتبع واستحضار أهم المحطات التي مر منها العمل الجمعوي في المغرب وعلاقته مع الدولة.
وارتباطا بالسياق الاجتماعي والتغييرات السياسية للمغرب المستقل من مرحلة إلى أخرى، سنجد أن هذه العلاقة تميزت بالتعاون والتقارب في البدايات الأولى للاستقلال بسيادة حماس وطني للمشاركة في بناء مغرب جديد ودولة وطنية حديثة، فاتجهت الأحزاب السياسية إلى استقطاب كافة الأنشطة الجمعوية فيما سمي بالتنظيمات الموازية، حيث ثم تأسيس مجموعة من الجمعيات والتنظيمات التي تشتغل في إطار المجتمع المدني كالشبيبة الاستقلالية وفتيات الانبعاث وبناة الاستقلال وغيرها من الجمعيات الموازية للأحزاب الموجودة آنذاك.
إلا أن التراجعات التي عرفها الحقل السياسي في المغرب منذ مطلع الستينات، والحصار الذي ضرب على القوى الحية بصفة عامة، وما صاحب ذلك من قمع ممنهج ومصادرة الحريات العامة وهيمنة النفوذ المخزني، هذه العوامل أدت إلى التقليص نسبيا من حركية النسيج الجمعوي ووضع حواجز للحيلولة دون توسعه، وكان رد فعل المجتمع المدني أن رآى في الدولة والمجتمع السياسي خصما لا مجال للتعاون معه، بما أن فكرة المجتمع المدني تقوم أساسا على معارضة المجتمع السياسي، بناء على تضاد في المصالح والأهداف وصيغ الاشتغال، وهو ما يستوجب بالضرورة مراحل من الصراع وانعدام الثقة، وأصبحت التنظيمات النابعة من المجتمع رديفة للقوى الديمقراطية السياسية في مواجهة آلة القمع المخزني، والدفاع عن الحريات وكرامة المواطن وفي هذا السياق تأسست المنظمة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان 1979، تم المنظمة المغربية لحقوق الإنسان 1988، وتعددت بعد ذلك المنظمات الحقوقية وتكوين جمعيات نسائية للدفاع عن حقوق المرأة.
عرف بذلك النسيج الجمعوي في المغرب تطورا ملحوظا مع مطلع التسعينات من القرن العشرين، ارتباطا بالانفراج السياسي المرتبط أساسا بالتحولات الدولية، إذ عرفت هذه المرحلة توقيع المغرب سنة 1993 على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال الميز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل، وتوسيع مجال الاشتغال للتنظيمات المدنية داخل المغرب، ثم تأسيس وزارة حقوق الإنسان سنة 1993، وتوجت الحركات النسائية نضالاتها بتعديلات على مدونة الأحوال الشخصية التي ستحمل اسم مدونة الأسرة سنة 2004، كما أسفرت نضالات الجمعيات الثقافية الأمازيغية عن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فضلا عن المبادرة الملكية في خطاب 18 ماي 2011 في الاتجاه نحو اعتماد مقاربة تشاركية تلعب فيها تنظيمات المجتمع المدني الدور الأساسي في محاربة الفقر والنهوض بالفئات المعوزة والهشة والمناطق المهمشة، وتتويج هذه المبادرة بالإعلان عن انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005. ليتوج هذا المسار بدسترة المجتمع المدني مع دستور 2011 ليتضح أن هذا الانفتاح على المجتمع المدني جاء نتيجة العجز على التصدي للمشاكل الكبرى التي عرفها المغرب نتيجة التقويمات الهيكلية ( 1983- 1993) والاتجاه نحو إشراك المجتمع المدني لامتصاص الغضب الشعبي بعد الأحداث الدامية لسنوات 1981- 1984- 1990.
إلا أنه رغم التطورات التي عرفها النسيج الجمعوي المدني في المغرب وتطور أنشطته وتنوعها، إلا أن هناك من يعتبر أنه لا يوجد حتى الآن مجتمع مدني قائم بذاته وفاعل في المغرب، فالمجتمع المدني بمقوماته ومفهومه الحديث لا يمكن أن يشتغل إلا في تربة النظام الديمقراطي القائم على مبدأ التعاقد بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، والقضاء على احتكار الزعامات وثقافة الانشقاقات والارتباطات المصلحية التي تربط المجتمع المدني بالدولة والأحزاب.
فالأمر يستدعي ضرورة إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وتأسيسها وفق رؤية جديدة على أسس مغايرة لمنطلقاته وأسسه التقليدية السابقة المبنية على الأحادية والسلطوية، وفق رؤية جديدة تتماشى مع سياسة الانفتاح التي فرضها نظام العولمة.
المصدر : الحوار المتمدن