ما أنجزته ثورات الربيع العربي 2011
بمقدار ما تبعث ثورات ليبيا واليمن وسورية، وإلى حد كبير مصر، الإحباط لدى قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، بسبب مآلاتها المأساوية، تعيد ثورات الموجة الثانية، السودانية والجزائرية، الثقة من جديد في مستقبل السياسة والديمقراطية في العالم العربي. والواقع أن ما غير في مآلات الثورات الأخيرة، بالمقارنة مع الأولى، ليس له أي علاقة بطبيعة هذه الثورات، ونوع شعاراتها وجوهر مطالبها وسبل تنظيمها، فهي جميعا ثوراتٌ شعبيةٌ عفويةٌ وسلميةٌ بالضرورة، وذات مطالب واحدة. ما جعل الثانية تختلف حتى الآن في مسارها عن الأولى هو عجز النظم القائمة، لأسبابٍ متعدّدة، في السودان والجزائر، عن استخدام السلاح لسحق الحركة الاحتجاجية واضطرار قادتها، في النهاية، بالضرورة، إلى المناورة السياسية، وفتح باب المفاوضات، بشكل أو آخر، لاحتواء الغضب الشعبي، وتجنب الصدام الدموي ما أمكن، مع المتظاهرين السلميين.
ومن المفيد أن نذكّر أولئك الذين يعتقدون أن سبب فشل ثورات الربيع الأولى في الوصول إلى أهدافها هو استخدامها، بعكس الثورتين الجزائرية والسودانية الراهنتين، السلاح، بأن السوريين استمروا في التظاهرات السلمية ستة أشهر متواصلة، وهم يتعرّضون لرصاص القناصة وشبيحة النظام، مع فقدان عشرات الشهداء في كل يوم، قبل أن يظهر أي سلاح، أما اليمنيون فقد تجاوزوهم في الصبر والثبات على السلمية أكثر من عام ونصف من دون انقطاع. وفي الحالتين، جاء العنف من النظم الاستبدادية الدموية، قبل أن ينتشر السلاح بين الأهالي والنشطاء.
تنبع أهمية تجدّد الانتفاضات الشعبية في الدول العربية من أنها تؤكّد أولا، بمفعول رجعي، على الجوهر السلمي والمدني لهذه الثورات، وتنقض، بشكل قاطع، بذاءة التفسير المؤامراتي الذي سعت إلى إشاعته أبواق النظم الدموية وأنصارها من بعض “القوى التقدّمية” المحنطة التي تجاوزها الزمن، وتعيش في فقاعةٍ من صنعها، وهو التفسير الذي تعيد تدويره اليوم، بسبب ما جرّته حرب النظم على الشعوب من خراب وأهوال ومذابح وحشية، قطاعات أوسع من الرأي العام الدولي والعربي، لإقناع الشعوب بأن طلب الحرية مغامرةٌ وخيمة العواقب، وأن السلام يكمن في الاستسلام للأمر الواقع.
وتبرهن ثانيا أن الديمقراطية ليست اليوم مطلبا حقيقيا في المجتمعات العربية المعاصرة فحسب، ولكنها ممكنة أيضا، بل إنها البند الأول على جدول أعمال الشعوب العربية التاريخي، والذي من دونه لن تكون هناك أي إمكانيةٍ لتحقيق أي إنجاز وطني، اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي وأخلاقي.
إن ما طبع الحياة السياسية في البلاد العربية لنصف القرن الماضي هو القطيعة بين النخب الاجتماعية، المتولدة من عملية النهضة والتقدم ذاتها، والشعوب، وانفصال هذه النخب عنها واشتراكها، نظما ومعارضاتٍ، في التشكيك بقدرات الناس، وتنمية انعدام الثقة بالإنسان، وإصرارها على وضع شعوبها تحت الوصاية الفكرية والسياسية، وفرض قاعدة التبعية والطاعة عليها.
كسرت الثورة هذه الوصاية المتعدّدة الأطراف، وفتحت ثغرةً في جدار العزل والتهميش والتشكيك بالنفس الذي غذته النخب الاجتماعية لضمان استسلام الشعب للأمر الواقع وانقياده. لكن الديمقراطية لم تصبح ثمرة ناضجة، ولا في متناول اليد. ما أنجزته الثورة أو المعركة الدموية السابقة، مهما بدت نتائجها المباشرة محدودة، في سورية كما هو الحال في بقية بلدان الربيع العربي، هو تغيير قاعدة الاشتباك، ونوعية العلاقة بين الشعب والنخب التي فقدت جميعا ثقة الجمهور بها، كما خسرت وحدتها واستقرارها. فلم يعد هناك منذ الآن من يستطيع أن يمنع الشعب من التدخل في السياسة، والنزول إلى الشارع، والضغط، من خلال مسيراته السلمية في الساحات العامة، لتأكيد وجوده ورأيه ومصالحه، والدفاع عن حقوقه. ولن تستطيع أي نخبة حاكمة بعد اليوم أن تفرض الأمن والاستقرار، وتستمر في الحكم، من دون أن تأخذ رأي الشعب ومصالحه ووجوده في الاعتبار. ولم يعد هناك من يستطيع أن يمنع الشعب من التظاهر والتعبير عن حضوره ومواقفه، على الرغم من الخسائر التي تكبدها في معركة التحرّر من الوصاية والاستعمار الداخلي، بل بسبب هذه الخسائر والتضحيات العظيمة التي قدّمها لانتزاع سيادته وحقه في الوجود والمشاركة في القرار.
هذا ما تثبته مسيرات المدن السودانية وصمودها أمام مناورات عمر البشير وتهديداته، وما تؤكد على مضمونه أيضا انتفاضة الجزائريين ضد العهدة الخامسة لرئيسٍ أرادت الطغمة الحاكمة أن تفرضه حاكما أبديا رغم مرضه، معتمدة على آثار حرب الإجهاض التي خاضتها لحرمانه من ممارسة حقوقه في ما سميت العشرية السوداء، وبالأحرى الدموية، في التسعينيات. هنا أيضا لم ينس الشعب تضحياته، ولا الثمن الذي دفعه من دم أبنائه لانتزاع حقه في المشاركة في القرار، ولم يكن بإمكان النخبة الحاكمة أن تفرض إرادتها بالقوة مرة ثانية، كما لو أن التاريخ لا يعرف التقدم، وليس سوى دوران دائم في الفراغ. ما دفعه الجزائريون في التسعينيات من تضحياتٍ هو الذي مكّنهم من ثني ذراع النخبة الحاكمة، وأجبرها على التراجع، وحرمها من أي أمل في استخدام العنف ذاته لفرض الطاعة من جديد على المتظاهرين.
وهذا ما أكّدته مسيرات درعا في الذكرى الثامنة للثورة السورية، ردا على إعادة نصب تمثال الطاغية حافظ الأسد في المدينة، في محاولةٍ من بقايا دولة الأسد لإحياء رموز القهر والإذلال التي أراد النظام من جديد فرضها لتفريغ تضحيات الشعب من مضمونها، ومحو ذاكرة الكفاح المرير والطويل لسنوات الثورة الدامية، وإعادة الشعب إلى حظيرة السيطرة والاستسلام.
ومع ذلك، يشكل تغيير طبيعة العلاقة وقاعدة التعامل بين النخبة والشعب المدخل الضروري لبدء حياة سياسية حقيقية، لكنه ليس الخاتمة لهذه الحياة، وليس نهاية المطاف نحو بناء نظم ديمقراطية مستقرّة وناجزة. سيستمر الصراع فترة طويلة بين النخب الحاكمة التي سوف تحاول أن تحتفظ بأقصى هامش لنفسها في اتخاذ القرار، وتهميش الجمهور الشعبي ما أمكن، والشعب الذي لن يتوقف عن التدخل في تظاهراتٍ وانتفاضاتٍ سلمية متواصلة لفرض إرادته، فالمنظومة الديمقراطية ليست جاهزة، أو لا تتشكل بضربة واحدة، فكريا وسياسيا وأخلاقيا وبنيويا، في أي مجتمع سياسي. إنها تنمو وتتبلور وتتحدد معالمها من خلال هذا الصراع الجدلي بين الطرفين، بمقدار ما يشكل الصراع ذاته الطريق الحتمي لتطوير وعي الشعب، وبلورة تصوره لمصالحه وحقوقه وتمثل قيم الحرية والديمقراطية أيضا، والتعمق في فهم متطلبات ممارستها الفكرية والقانونية، من جهة، وتطوير وعي النخب الاجتماعية وتحطيم الجدار الذي حاولت أن تقيمه عازلا بينها وبين الشعب، من جهة ثانية، أي لتطوير علاقة احترام وانسجام وتفاعل بين النخبة والجمهور، بحيث تتحول النخبة إلى معبر بالفعل عن إرادة الشعب المتبلورة، لا عالما ولا مجتمعا مستقلا قائما بذاته يخرج من الشعب، ليفرض سيطرته عليه. في المنظومة الديمقراطية، تصبح النخبة الاجتماعية، الحاكمة والمعارضة معا، نخبة الشعب، لأنها نابعة منه، ولا تستمد شرعية سلطتها وحكمها إلا بمقدار ما تعكس تطلعاته، وتمثل إرادته وتجسّد قواه الحية.
كسر حلقة الوصاية، وهو ما تهدف إليه وتقوم به الثورات والانتفاضات الشعبية، هو الشرط الضروري لفتح باب الجدل والصراع للسير نحو الديمقراطية، بمقدار ما يشكّل شرطا لكسر حلقة الوصاية الخارجية بالنسبة للشعب، لكنه ليس كافيا لإقامة الديمقراطية، فالديمقراطية لا تولد دفعة واحدة، وإنما هي ثمرة تراكم في الوعي والشعور والقيم ومفهوم السلطة والعلاقة بها وبنية الدولة وتوزيع سلطاتها، وإيجاد توازناتٍ جديدةٍ داخل المجتمع نفسه. ولا يتم ذلك كله دفعةً واحدة، وإنما هو ثمرة صراع جدلي، يفضي إلى تغيير سلوك النخبة والشعب معا، وتكوين المواطنة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنتاج نخبةٍ من نوع مختلف بمقدار وبموازاة تغير طبيعة الشعب وعلاقته بنفسه، وتصوره لدوره، وتعامل افراده في ما بينهم، وتصورهم لوجودهم السياسي المشترك. هذه عملية تنمية متبادلة، مستمرة وطويلة، للنخب والجمهور، أي للشعب، وهي معرّضة للانتكاس والتراجع والتقدم. لكن الثورة فاتحة أساسية، ومن دونها ليس هناك سوى حكم الوصاية والاستعمار، داخليا أو خارجيا، لا فرق.
لذلك، لا ينفصل النجاح في تحقيق رهان الديمقراطية عن إنجاز ثوراتٍ موازية ثقافية وفكرية واجتماعية واقتصادية أيضا، فالثورات تفتح صفحة جديدة في تاريخ الأمم والشعوب، لكنها لا تحسم مصيرها. وبمقدار ما تتعلم الشعوب من تجاربها، وتراكم من الخبرة والمعرفة النظرية، لكن أيضا وأهم منها، العملية، تضمن وصولها إلى الحالة المدنية التي تميّز الشعوب الحرّة والأمم والديمقراطيات الناجزة. لذلك كل ثورة هي مشروع أمة، ودولة حرة، وبالتالي هي مهمة لم تكتمل ولا تكتمل إلا بثوراتٍ متتالية ومستمرة، ولو بوسائل مختلفة في كل حقبة. وهي عملية تغير وتغيير متواصلين، لا تشكّل الانتفاضة الكبرى فيها سوى لحظة القطع مع الماضي الاجتماعي والسياسي، الضرورية لتحويل نظر المجتمعات ومسارها إلى سكّة جديدة، يصبح فيها تحرير الإنسان، أي بناء قدراته للسيطرة على ذاته ومحيطه، غاية الاجتماع، ومحرّك إبداعه في الوقت نفسه. بتكاليف باهظة غالبا، لكن لا محيد عنها في معظم الأحيان.
برهان غليون
2019-04-11:: العربي الجديد