التحقيقات

هل نظام الاسد في خطر ؟

اياد الجعفري
كيف يمكن أن يؤثر انشقاق رامي مخلوف على تماسك نظام الأسد؟، وهل يمرّ هذا النظام، نتيجة أزمة مخلوف – الأسد، في لحظة عصيبة ومصيرية؟، أم أن استقرار النظام وتماسكه مضمونٌ رغم هذا الانشقاق الكبير، على غرار الانشقاقات الكبرى في تاريخ النظام، التي استوعبها، وتجاوزها، ليصبح أقوى بعدها؟

تشكل تلك الأسئلة، هذه الأيام، شغل الناس الشاغل من المهتمين بالشأن السوري، داخل سوريا وخارجها. وتتنوع الإجابات، التي تبدو في بعض الأحيان، تبسيطية للغاية، وفي أحيانٍ أخرى، غائية أو دعائية.

ويندر أن نجد إجابات تستند إلى تحليل علمي، يرتكز على أدبيات علم السياسة، الذي نجد في بحره الواسع، الكثير من الأبحاث والمداخل المتخصصة في تشريح الأنظمة السياسية، واستقرارها أو تماسكها.

وفي محاولة للإجابة على الأسئلة السابقة، سنحاول توصيف الأزمة الراهنة داخل نظام الأسد، وفق ثلاثة مداخل شائعة في علم السياسة:

المدخل الأول – الهرم السلطوي
قد تكون إحدى أبرز المحاولات في تشريح الأنظمة في العالم العربي، وفق هذا المدخل، تلك التي نجدها في كتاب “الأقليات والاستقرار السياسي في الوطن العربي”، للأكاديمية المصرية، نيفين مسعد، والذي يعود تاريخه إلى نهاية الثمانينات من القرن الماضي.

ووفق الأكاديمية المصرية، فإن منظومة الحكم السورية، التي أسسها حافظ الأسد، هي على شكل هرم، تقبع على قمته، العائلة (آل الأسد)، ومن ثم القبيلة (العائلات المتصاهرة مع آل الأسد والتي تربطها بها درجة قرابة ضمن الطائفة العلوية)، ومن ثم الطائفة (رجال أمن وجيش ينتمون إلى الطائفة العلوية، ويشكلون النواة الصلبة لتركيبة الأجهزة القسرية داخل نظام الأسد)، وأخيراً، بقية شرائح المجتمع السوري (ضباط جيش ورجال أمن ورجال أعمال ومسؤولون، من طوائف مختلفة، يستعين بهم النظام، ونفوذهم محدود، فهم أقرب إلى كونهم مجرد أدوات).

ووفق هذا التوصيف، نستطيع أن نقول إن أهمية مكونات الهرم السلطوي، تزداد، كلما اقتربنا من القمة. وبالتالي، فإن العائلة، هي الأكثر أهمية، تتلوها العائلات المتصاهرة معها، ومن ثم المتنفذون من أبناء الطائفة، وأخيراً، المتعاونون من باقي الطوائف ومكونات المجتمع السوري.

ورغم أن تاريخ نظام الأسد كان مليئاً بالانشقاقات، إلا أن معظمها، كان من المستوى الثالث أو الرابع. وكانت الانشقاقات من المستوى الثالث (المتنفذين من الطائفة) تشكل عادةً خضّات ملفتة للنظام، لكنه تمكن من استيعابها جميعاً، وتجاوزها. فيما كانت الانشقاقات من المستوى الرابع (المتعاونين والمتنفذين من باقي مكونات المجتمع) أقل قيمة، ولم تشكل أي مؤشرات خطر على تماسك النظام، إطلاقاً، لأنها لم تكن تنتمي إلى النواة الصلبة للأجهزة القسرية في نظام الأسد (الأمن والجيش)، من الضباط العلويين.

ووفق هذا التوصيف، يمكن أن نقول إن الصراع بين حافظ ورفعت، في منتصف ثمانينات القرن الماضي، كان أخطر منعطف مرّ به نظام الأسد، وشكل خطراً على تماسكه الداخلي. ذلك أنه طال المستوى الأول من الهرم السلطوي.

ووفق ما لدينا من شهادات كثيرة، يتضح جلياً أن رفعت الأسد قَبِل بمغادرة سوريا، والتخلي عن نفوذه الكبير، مقابل ثروة ضخمة. لكنه، وفق ما يبدو لاحقاً، ندم بشدة، أنه تخلى عن اللحظة التي كان من الممكن فيها أن يقلب الطاولة على شقيقه الأكبر. لكن الأوان كان قد فات. وكان حافظ الأسد قد رمم الأضرار التي طالت تماسك النظام، وسيطرته عليه، بعد مغادرة رفعت.

ووفق هذا التوصيف، يبدو أن انشقاق رامي مخلوف، هو ثاني أخطر انشقاق في تاريخ نظام الأسد. لكنه، أقل خطراً من انشقاق رفعت، ذلك لأنه ينتمي إلى المستوى الثاني في الهرم السلطوي. وهو ما يجعله أخطر من كل الانشقاقات التي عرفها نظام الأسد في تاريخه، طوال 50 عاماً، لكنه أقل خطراً من انشقاق رفعت، في ثمانينات القرن الماضي.

ووفق هذا التوصيف، فإن نظام الأسد يمرّ اليوم في منعطف ليس بالهين، ولا يمكن الجزم بإمكانية تفكك نواة النظام الصلبة، في الجيش والأمن، لكن هذا السيناريو وارد. وتزداد احتمالية هذا السيناريو، إن كانت روسيا أو إيران، تتدخلان لصالح مخلوف. وتقلّ تلك الاحتمالية، في الحالة المعاكسة.

المدخل الثاني – الأوليغاركيات والعائلات
كشفت وثائق بنما الشهيرة، المسربة عام 2016، أن رامي مخلوف أحال 63% من رأس مال شركة “سيرتيل” إلى شركة يملكها، اسمها “دريكس تكنولوجيز”، ومقرها جزر فيرجن البريطانية. وهي شركة كانت تدير جانباً من أعمال “سيرتيل” بالنيابة عن مخلوف. كما كشفت الوثائق عن شركة أخرى تسمى “موساك فونسيكا”، كانت تدير ست شركات تابعة لرامي مخلوف، في جزر فيرجن البريطانية، أيضاً.

وللتنويه، فإن جزر فيرجن البريطانية هي إحدى أبرز الملاذات الضريبية لأثرياء العالم في الغرب، الذين يريدون تهريب أموالهم من بلدانهم، تجنباً للضرائب، أو تجنباً لملاحقتهم قضائياً أو أمنياً في بلدانهم، في حالة المسؤولين العرب، مثلاً.
وهنا، لا بد أن يتبادر إلى أذهان القارئين تساؤل ملح: لماذا سجّل رامي مخلوف 63% من أسهم “سيرتيل” لصالح شركة مملوكة في جزر فيرجن البريطانية، في العام 2002؟، ففي ذلك التاريخ، لم تكن هناك أية مظاهر تهديد جدية للحكم في دمشق، ولم يكن رامي مخلوف أو والده أو شقيقه، أو ابن عمته، بشار الأسد، على أية قائمة للعقوبات الدولية، بعد. كان المشهد حينها ينبئ بنجاح عملية انتقال توريث السلطة لبشار. وكان نفوذ آل مخلوف في أوجه، بالداخل السوري.

الجواب قد نجده في مؤلف لأستاذ العلوم السياسية في جامعة كولغيت بنيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية، مايكل جونستون، يحمل عنوان “متلازمات الفساد: الثروة والسلطة والديمقراطية”.

ويصنف هذا الكتاب الأنظمة والنخب في العالم حسب طبيعة الفساد في بلدانها. ووفق توصيفات الأكاديمي الأمريكي، يبدو أن نظام الأسد في سوريا، خلال عَقدَي حكم الأسد الابن، يندرج ضمن فئة أنظمة “الأوليغاركيات والعائلات”.

وأبرز التوصيفات التي أطلقها الأكاديمي الأمريكي، على هذا النوع من الأنظمة، المتواجدة أيضاً في روسيا والصين، ودول أخرى، أنه تحكمه “الأقليات”، (ليس بالضرورة بالمعنى الطائفي، قد تكون بمعاني أخرى، كالأقليات الطبقية أو المصلحية.. إلخ). وفي هذه الأنظمة، فإن الشخصيات الفاعلة يعمل كل منها بمفرده، ولا يتعاونون لوقت طويل، فالتنافس يحدث بشكل شخصي كثيف، بين عدد محدود من اللاعبين.

بكلمات أخرى، يقول مؤلف الكتاب إن الشخصيات الفاعلة في البلد، لا يتمتعون بالأمان نتيجة سرعة ونطاق التغيرات، والطبيعة غير المنظمة، والحجم الهائل، للمصالح المتنازع عليها، والعنف المتكرر. في وسط كل ذلك، تكون المؤسسات السياسية والاقتصادية هي الطرف الأضعف، ويصبح اللجوء للعنف، عبر جهازي الجيش والشرطة (الأمن)، مبرراً، ومتكرراً.

كخلاصة، يقول الأكاديمي الأمريكي، “النخب غير الآمنة، تكون شديدة الجشع والضراوة”.

وبإسقاط التوصيف الأخير، على حالة النزاع الراهنة بين مخلوف – الأسد، نستطيع القول إن نظام الأسد يمرّ بمنعطف خطير، ذلك أن طرفي النزاع جشعين، ولا تنقصهما الضراوة. وما هو يؤكده إصرار مخلوف على الذهاب بعيداً في الكشف عن تفاصيل الصراع، للرأي العام، رغم خطورة ذلك على مصيره.

المدخل الثالث – نظام الحكم الفردي أو الأوتوقراطي
وفق توصيفات هذا الصنف من الأنظمة، كما نجد في أدبيات متخصصة بعلم السياسة، فإن الحاكم يرتبط عبر شبكة من العلاقات والتفاعلات مع مجموعة من المنتفعين والقادة والأتباع والمؤيدين، الذين يشكلون النخبة السياسية للنظام.

وهنا بطبيعة الحال، لا نقصد النخبة بمعناها الثقافي أو الاجتماعي، بل نقصد “الأقلية الحاكمة”، والمرتبطين بها، ممن يؤثرون بنسب متفاوتة، على عملية ممارسة السلطة على مكونات الدولة.

ويستخدم هذا المدخل في التوصيف، تعبيراً يُعرف بـ “علاقات السيطرة والتبعية الشخصية”، أو “نموذج العلاقة الصامتة”. بمعنى، أن رأس هرم النظام يتفاعل مع المقربين منه، وفق علاقة يمكن توصيفها بـ “الأخطبوطية”. ووفق هذا التوصيف، فإن قطع الأذرع، لا يؤثر على استمرارية النظام، الذي لا ينهار، إلا بموت أو إزاحة مركز “الأخطبوط”. وهو في هذه الحالة، رأس النظام شخصياً. فهذا النوع من الأنظمة، وفق هذا التوصيف، فردي، تتركز فيه القوة في يدّ الحاكم بصورة شبه مطلقة. وهي تركيبة، ورثها الأسد الابن، عن أبيه المؤسس.

إسقاط هذا المدخل في تشريح الأنظمة، يقلل من خطورة انشقاق رامي مخلوف الحالي. فـ رامي، في نهاية المطاف، مجرد ذراع من أذرع “مركز الأخطبوط”، وهو في هذه الحالة، بشار الأسد، شخصياً. والنظام لا يصبح مهدداً، إلا في حال طال التهديد “مركز الأخطبوط”، بشكل مباشر.

خلاصة
مما سبق، نجد أن مدخلين من ثلاثة مداخل شائعة في علم السياسة، تدفعنا إلى توصيف أزمة مخلوف – الأسد، بـ “الخطيرة” على تماسك النظام واستقراره. فيما يدفعنا مدخل ثالث إلى توصيف “أقل خطورة” لهذه الأزمة. لكن، ما لا تلحظه تلك المداخل جميعها، عامل جديد، لم يعرفه نظام الأسد قبل العام 2012، وهو وجود مؤثر خارجي، يتمثل في النفوذ الإيراني والروسي المباشر، على الأرض السورية، وداخل مؤسسات الدولة الخاضعة للنظام، الأمر الذي يعزز خطورة هذا النزاع، نظراً لكثرة الفاعلين فيه. وهي قاعدة شهيرة في علم السياسة، فكلما كثر الفاعلون في حيز مشترك، كلما كان ضبط الصراع بينهم، أكثر صعوبة، وخروج الأمور عن السيطرة، يصبح سيناريو باحتمالية أعلى.

وهكذا نخلص وفق هذا التحليل، الذي استندنا فيه إلى مداخل علمية، إلى أن أزمة مخلوف – الأسد، تشكل خطراً، بالفعل، على تماسك النظام واستمراريته. لكن ذلك، لا يعني، بطبيعة الحال، الجزم بالاتجاه الذي ستتطور نحوه تفاعلات الأزمة. إذ تبقى كل السيناريوهات مفتوحة، مع ترجيح بنسبة 67%، لصالح سيناريوهات أكثر خطورة، على تماسك النظام.

المصدر : زمان الوصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى