التحقيقات

نسبة مرعبة واضطرابات غير مسبوقة: كيف أثرت الحرب على سلوك الأطفال في سوريا

عمر حاج أحمد

مع تزايد وتيرة الحرب في سوريا خلال السنوات العشر الماضية، بات جليّاً أثر هذه الحرب على السوريين عامةً، وعلى الأطفال خاصة الذين كانوا الأكثر تأثراً إن كان على المستوى الصحي أو الاجتماعي أو النفسي، بالإضافة للمستوى التعليمي والتربوي.

في إدلب وحدها أكثر من مليون ونصف مليون طفل محروم من حق التعليم، ونصف هذا العدد هو خارج أسوار المدارس ومنخرط بسوق العمل رغم صغر سنّه، عدا عن آلاف الأطفال الذين تُركوا للمصير المجهول والضّياع، مما أدى كل ذلك لتغيّر واضح في سلوك الأطفال.

إدمان مخدرات

غالبية أطفال سوريا ترعرعوا على الحرب وعايشوا القصف والقتل والتهجير، مما زاد من اضطراباتهم النفسية التي أثّرت على سلوكيات الطفل، لكن المقابل صقلت الكثير منهم وعلّمتهم معنى ذاتهم.

عبد الله من ريف إدلب الجنوبي، صاحب السادسة عشر ربيعاً، والذي شُفي مؤخراً من إدمان المواد المخدرة، يقول لأورينت نت: “فقدت والدي وأنا في سن العاشرة جراء قصف ميليشيا أسد لمنزلنا، وبعدها نزحنا إلى مخيمات أطمة شمال إدلب، وبعد فترة وجيزة تعرّفت على بعض الأطفال، بعضهم أكبر مني سناً، فعلّموني على التدخين بادئ الأمر وبعدها على سرقة بعض النقود والحاجيات من المحلّات أو المنازل القريبة من منزلي، وفي النهاية وصلنا لشراء بعض سجائر الحشيش من أحد أقارب أصدقائي”.

ويضيف عبد الله وهو يجهش بالبكاء أن “ثاني أكبر صدمة بحياتي بعد وفاة والدي، هي عندما أُغمي على أمي بعد رؤيتي محتجزاً في أحد محلات السمانة من قبل صاحبه، ومعي بعض النقود التي سرقتها وبجيبي بقايا سيجارة حشيش صغيرة، ولكن للأسف لم تُيقظني دموع أمي من هذا الكابوس العظيم، بل ساءت أحوالي أكثر فقررت الذهاب للتطوع بأحد الفصائل في منطقة عفرين وعمري 16 عاماً، وهناك زاد الحال سوءاً عليّ بعد إدماني أكثر على صنوف الحشيش المتنوعة وسهولة الحصول عليها”.

بعد عدة سنوات وأشهر من الضياع بين إدلب وعفرين، وبمساعدة إحدى الجمعيات وبإرشاد من بعض الأشخاص، قرر عبد الله بدء التخلّي عن إدمان الحشيش والعلاج منه، خاصة بعد الحالة السيئة لوالدته وعدم رضاها عن كل ما قمت به بعد وفاة والدي.

اضطرابات نفسية
وحول تأثير الحرب يقول طبيب الصحة النفسية “وليد الفاعوري” لأورينت نت إنه “بعد كثرة ما رآه أطفالنا من حملات أمنية وقصف همجي وتشريد بأقسى الظروف، تعرّض أكثرهم لاضطرابات نفسية تراوحت بين الوسط والقوية، وضمن مسميات علمية عديدة”.

وأضاف الفاعوري أن “هذه الاضطرابات تبدأ باضطرابات النوم والتبول اللاإرادي والانطواء، وتتطور أحياناً إلى أمراض التوحّد والتوتّر السام واضطرابات الكرب التالي للرضح PTSD ، وهناك العديد من الاضطرابات النفسية التي أصابت أكثر من ثلثيّ الأطفال السوريين”.

كما أكّدت مسؤولة الارشاد النفسي مها الخطيب لأورينت نت أن “أخطر الاضطرابات النفسية عند الأطفال في إدلب هي اضطرابات التوتر السام واضطرابات الكرب، وجميعها مبنيّة على سلسلة التجارب والذكريات السيئة، ولا أعتقد هناك أسوأ من تجارب الأطفال السوريين خلال السنوات الأخيرة”.

وأشارت الخطيب إلى أن “آثار الحرب النفسية على أطفال سوريا سبّبت ما يُسمى رضوض الصدمة والتي تؤدي إلى زيادة الكوابيس والاكتئاب والقلق الدائم وقلة النوم أحياناً، وكذلك العجز واليأس وفقدان الشهية وبعض الأفعال العدائية”.

سلوك عدائي

ومن أخطر الآثار السلبية للحرب على أطفال سوريا هو كثرة السلوك العدائي بين الأطفال، فباتت لعبهم المفضلة هي الألعاب الحربية وتجسيدها أحياناً على أرض الواقع في سلوكياتهم، كما يقول الدكتور عزيز السبيع.

وانتشر مؤخراً عدة حالات تعكس هذه السلوكيات العدائية عند الأطفال في إدلب منها مقتل طفل على يد صديقه الطفل وذبحه بضربة سكين بسبب خلاف بسيط بينهم، إضافة إلى ربط مجموعة من الأطفال زميلهم وينهالون عليه ضرباً، بالإضافة للعديد من السلوكيات العدائية داخل المدارس وفي الشوارع.

وبحسب رأي السبيع هناك “لدينا نسبة كبيرة من الأطفال الذين باتوا يسلكون سلوكيات عدائية بسبب ما شاهدوه ولمسوه في الحرب السورية، فالكثير منهم يُشبع رغبته وسلوكه بألعاب سلاح الخرز، ومما يُثير حفيظتك هو شراسة قتالهم واشتباكهم فيما بينهم، حتى لو تضرر بعضهم، والملفت للنظر أن بعض هؤلاء الأطفال انتقلوا من حمل سلاح الخرز إلى السلاح التقليدي ضمن بعض المعسكرات التابعة للفصائل”.

من جانبه، يرى محمد الجدوع مسؤول الدعم النفسي في إحدى المنظمات السورية أن السلوك العدائي عند الطفل بات بتزايد رغم كل مشاريع الدعم النفسي في إدلب، مضيفاً لأورينت نت أن “الطفل في مجتمعاتنا بات أكثر عدائية بسبب ظروف الحرب والتهجير التي عايشها، وهذا ينعكس على تصرفاته مع زملائه أو مع مدرّسيه، وكذلك أفعاله مع أهله وأخوته والمخيمات التي يقطن بها، ولهذا نرى ونسمع عن عشرات حالات الخناق والاعتداء أبطالها جميعهم من الأطفال”.

” أطفالنا باتوا شباناً يافعين قبل أوانهم بسنوات” بهذا الوصف خبير الصحة المجتمعية الدكتور ملهم العبيد عن أطفال إدلب “الذين يعملون لإعالة عائلاتهم والتشارك بذلك، وغالبيتهم من المتسربين من المدارس، ولهذا تجد زنودهم الغضّة باتت أكثر قساوة وكأنهم شبان يافعين”.

ويعتبر الدكتور العبيد أن، “الحرب وما سببته من فقدان للمعيل أو للمنزل ومصدر الرزق الأساسي، جعل من هؤلاء الأطفال شباباً يُقارعون قسوة الحياة وظلم الحرب لهم، حتى أن بعض الأطفال في ادلب يُعتبرون المعيل الوحيد لعائلاتهم، ولهذا فقدوا طفولتهم دون التمتّع بها”.

معرفة الذات

وبسياق مختلف، يرى محمد المرعي أبو زياد أن ابنه علي الذي لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، قد أصبح المعيل الأساسي لعائلتهم هو وأخيه زياد ابن الخامسة عشرة، ويتحدث أبو زياد لأورينت نت عن ابنه علي قائلاً: “منذ سنتين وهو يعمل بورشة حدادة ويصرف علينا كون أجره منتظما شهرياً، بعكس أخيه زياد الذي يعمل بجمع البلاستيك من الحاويات والمكبّات، وبسبب عجزي النصفي سمحت لهم بترك المدرسة والعمل لإعالة باقي إخوتهم”.

ويعتبر أبو زياد أنه أخطأ حين أبعدهم عن المدارس رغم كل الفاقة التي تلمّ به، ويستدرك قائلاً: “من المفروض علينا كأهل أن نجعل أطفالنا ينعمون بطفولتهم حتى وإن كانت الحياة عكس ذلك، وأن نُخفف عنهم وطأة الحرب التي أثرت عليهم بكل النواحي النفسية والتربوية والتعليمية والصحية”.

أما الطفل “إبراهيم” الذي صقلته هموم الحرب وأوجاعها ليكون الأب والمُعيل والمتفوّق على أقرانه والحافظ لكتاب ربّه، فقد عرف معنى ذاته خلال سنوات الحرب.

وقال ابراهيم لأورينت نت، “منذ قرابة 3 سنوات وأنا يتيم الأب، وأبي منذ صغره يتيم الأب كذلك، وخلال هذه الحرب فجأة وجدت نفسي وحيداً أنا وأمي وأخواتي الأربعة دون أي معيل، ولكن هذه الظروف قوّت عزيمتي لأكون سنداً لأمي وأخواتي ومتفوقاً على زملائي”.

وأضاف إبراهيم “تعلّمت من هذه الظروف معنى عفّة النفس وعزّتها وألا نكون عالةً على أحد، فصرت أعمل في فترات انقطاع المدارس بورشة خالي ولا أقبل منه أو من غيره أي مساعدة دون عمل، وخلال 3 سنوات تمكنت من حفظ القرآن الكريم كاملاً، وتم تكريمي في المدرسة عدة مرات لتفوقي فيها، فقد كان حلم والدي ذلك وفعلاً بدأت بتحقيق حلمه، فرغم سوء الحرب وظروفها إلا أنه علينا تحدي تلك الظروف”.

من جهتها أكدت “أم ابراهيم” لأورينت نت بقولها إنه  “منذ الأيام الأولى لاستشهاد والد إبراهيم، رأيت فيه الأب الحنون لأخواته البنات، ورجل البيت الذي يمكننا أن نعتمد عليه مع عزة نفس كبيرة، فكان يرفض أن يأخذ أو نأخذ مصروفنا من خاله إلا إذا ساعده بورشته”.

وتًشير والدة إبراهيم إلى أن، “إبراهيم لديه فتحة في القلب ومع ذلك يساعدنا بمصروف المنزل، ويقوم بواجباته المدرسية متفوقاً على مدرسته، وحافظاً للقرآن الكريم غيباً وبعدة قراءات، وكل هذا لأنه عرف ذاته وأراد أن تؤثر به الحرب ايجاباً لا سلباً، ويؤثر هو بغيره

المصدر : اورينت نت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى