من جورجيا إلى إدلب:كيف تذوي أمريكا
إياد الجعفري لا يبدو أن “الأمريكي” قادمٌ في وقت قريب، لتغيير موازين القوى المأساوية في إدلب ومحيطها، كما راهن الكثير من الكُتّاب والمراقبين السوريين، خلال التوتر العسكري الأخير، بين تركيا وروسيا، في تلك الزاوية المحتقنة من سوريا. بل يبدو جلياً للعيان، أن قمة بوتين – أردوغان الأخيرة، كانت إشعاراً لا يقبل الكثير من الجدل، يُفيد بخيبة أمل أنقرة من أي دعم جدّي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن الغرب الأوروبي، الذي يحتاج للدعم، في مواجهة الروسي، وليس العكس. رهان شريحة من السوريين على الأمريكي، مفهوم، ومتجدد. لكنه يرتكز إلى قراءة مغلوطة لطبيعة النظام العالمي الراهن، الذي لا يتعلق توصيفه فقط، بموازين القوى العسكرية والاقتصادية والعلمية، كما يفعل الكثير من المحللين، بطريقة تقليدية، عفا عليها الزمن، بل يتعلق بجانب آخر، يرتبط بالقواعد التي تحكم العلاقات بين أطرافه البارزة. وهو ما يغيب عن بال معظم المراهنين على أمريكا. فأمريكا التي نعرفها، والتي ما تزال حتى اللحظة، أقوى قوة اقتصادية وعسكرية وعلمية، في العالم، تذوي منذ أكثر من عقدٍ من الزمان، بعد أن اختبرت الحدود القصوى لما يمكن أن تفعله قوتها العسكرية المجردة، خلال حربين ضد دولتين ضعيفتين، هما أفغانستان والعراق، في مطلع العقد الماضي، لتخرج من هاتين الحربين، بخاتمة سلبية، تبدت مساوئها، منذ العام 2006، بصورة دفعت إلى إجماعٍ في أوساط النخبة الأمريكية الحاكمة، تجلى في تقرير “بيكر – هاملتون” الشهير، الذي أقرّ بحدود قدرة أمريكا العسكرية الصرفة، ودعا إلى العودة مجدداً، لاستخدام القوة الناعمة، والحد من استخدامات القدرات العسكرية الأمريكية، إلا في حالات تهدد الأمن القومي الأمريكي، بشكل مباشر. ويُجمع مؤرخون ومنظّرون متخصصون، كُثر، بأن العام 2008، كان منعطفاً نوعياً، انتقل فيه العالم، بشكل واضح، من حالة “الأحادية القطبية”، التي تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، بلا منازع، إلى حالة “التعددية القطبية”، التي ما تزال تقرّ بالحضور الطاغي للقطب الأمريكي، لكن مع فقدانه لهيمنته المطلقة. ففي صيف العام 2008، سحقت روسيا جارتها جورجيا، المقرّبة من الأمريكيين بشدة، والمرشحة لعضوية حلف شمال الأطلسي حينها، والتي تدربت قواتها على أيدي الأمريكيين والإسرائيليين. وخلال 5 أيام فقط، اجتاحت القوات الروسية أوسيتيا الجنوبية، وهدد تفوقها العسكري، العاصمة الجورجية نفسها، وكان رد الفعل الأمريكي والأوروبي، ضعيفاً، اقتصر على التنديد، مع العمل على وقف إطلاق النار باستخدام المساعي الدبلوماسية. وكان ذلك تحدّياً روسيّاً واضحاً لواشنطن، واجهته الأخيرة بدرجة كبيرة من ضبط النفس، في نهاية عقد من التدخل العسكري الفاشل. وللمفارقة، أن جورج بوش الابن، الذي دشّن حروب واشنطن في بداية ذلك العقد، هو من تلقى الإهانة الروسية، بدرجة عالية من ضبط النفس، في نهاية ولايته الثانية، في تعبير جلّي للغاية عن إدراك أمريكا لحدود قدراتها العسكرية، التي عجزت عن تحقيق النجاح المستدام في بلدين ضعيفين، كأفغانستان والعراق، فما بالك، بمواجهة مع ثاني أقوى قوة عسكرية عالمية، وهي روسيا. بعد تلك الحادثة بشهر واحدٍ فقط، هزت أزمة مالية عالمية أمريكا والغرب، والعالم برمته، منذرةً بانهيار النموذج الليبرالي الغربي، وموجهةً ضربة قاصمة للهيمنة الاقتصادية الأمريكية، إذ أعقب ذلك، صعود متسارع لمكانة الصين الدولية، الاقتصادية والسياسية. المنعطف الثاني، كان في العام 2015، مع التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، والذي يعتبره مراقبون متخصصون في العلاقات الدولية، تعبيراً شديد الجلاء عن العبور إلى حالة “تعددية قطبية مضبوطة”، حيث كان ذلك التدخل بموافقة أمريكية، وكان تعبيراً عن رغبة النخبة الموجهة لصناعة القرار في واشنطن، بالانسحاب من معظم الملفات الساخنة غير الملحة للأمريكيين، حول العالم، أو تقاسم تكاليفها مع حلفاء أو حتى منافسين. وملأت روسيا الفراغ الأمريكي، في سوريا، وكانت تلك إشارة البدء كي تتحرك قوى إقليمية ودولية عديدة، لملء الفراغ الأمريكي، في أكثر من مكان حول العالم. ومنذ العام 2015، وحتى الساعة، تحكم الصراع والتنافس بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، في سوريا، وفي مناطق أخرى من العالم، جملة من “قواعد اللعب”، التي تسمح بعدم انجرار المتنافسين والمتصارعين إلى حالة صراع “بلا قواعد”، قد تتحول إلى صراع وجودي. هذا الانضباط، الذي تمارسه دول في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، وكذلك تركيا وإيران وإسرائيل، ولاعبين آخرين في أماكن أخرى من العالم، ضروري، كي لا تنهار حالة “التعددية القطبية”، لتتحول إلى حالة فوضى عارمة، تجرّ المشاركين فيها إلى حروب وجودية، من قبيل ما حدث في الحربين العالميتين الأولى الثانية، في القرن العشرين. خلاصة ما سبق، أن أمريكا، كقوة طاغية فاعلة في العالم، تذوي منذ العام 2008، بإجماع معظم المتخصصين في العلاقات الدولية. والأحداث الكبرى التي بدأت بجورجيا عام 2008، ولن تنتهي بما حدث في إدلب، مؤخراً، حيث تخلت أمريكا عن حليفها التقليدي القديم، تركيا، في مواجهة الدب الروسي، تؤكد تلك الحقيقة. لكن دعنا نقرّ في المقابل، بأن رهان بعض السوريين على أمريكا، لموازنة الرجحان الروسي في سوريا، مفهوم موضوعياً. ذلك أن تخلي أمريكا عن حلفائها، والتخلي عن أدوارٍ فاعلة في دول، قد لا تحوي مصالح مباشرة تهم واشنطن، كسوريا مثلاً، تعني خسارة القطب الأمريكي، للمزيد من هيبته ونفوذه العالمي، لصالح قوى صاعدة بسرعة، كـ روسيا والصين. وأخرى، أقل حجماً، كـ إيران. تلك المعضلة، يحاول الأمريكيون مواجهتها باستخدام أساليب القوة الناعمة، التي يمتلكونها، والتي تبدو هي الأخرى، في حالة “ذبول” مستمر، مقارنة بتنامي قوة الصين الناعمة، وشراسة قوة روسيا العسكرية المباشرة. إذا كان لا يزال هناك شكوك لدى أحد من السوريين، بأن أمريكا ليست موضع رهان، لتعديل موازين القوى المختلة في سوريا، عليه فقط أن يتذكر ذلك الاتفاق الذي وقعته واشنطن، أخيراً، مع حركة “طالبان”، والذي هلل له الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بوصفه طوق نجاة للخروج من أفغانستان، حتى لو كان ذلك يعني، استعادة طالبان لكامل تلك الدولة الواقعة في وسط آسيا. باختصار، أمريكا، لا يمكن الرهان عليها، في سوريا، ولا يعني ذلك، بالضرورة، غلق قنوات التواصل والتفاعل مع المسؤولين الأمريكيين المعنيين بالشأن السوري، لكنه يعني، أن فهم الأمور القائمة في النظام العالمي الراهن، على حقيقتها، مهما كانت مؤلمة، مهمٌ جداً، للبحث بشكل موضوعي وعقلاني، عن سبلٍ للتقليل من حدّة المأساة التي تعيشها شريحة واسعة من السوريين في شمال غرب البلاد، بدلاً من الرهان على الأمُنيات. المصدر : المدن