التحقيقات

منازل الشمال: أجور “سياحية” أمام الهاربين من الموت

حسن عبد الرحيم

شنّ النظام السوري حملة قصف مكثفة على مناطق مختلفة من ريف إدلب الجنوبي أواخر شهر نيسان الماضي، ثم بدأت عمليات القصف تتوسع لتشمل كافة الريف الجنوبي، مما دفع بغالبية سكان تلك المناطق إلى النزوح عن قراهم ومدنهم باتجاه مناطق “أكثر أمناً” في ريفي إدلب الشمالي والغربي.

لكن رحلة النزوح لم تكن نهاية المعاناة، بل بدأت معها معاناة جديدة تكمن في تأمين أجرة المنزل المستأجَر، والتي لا يمكن للكثير من النازحين تأمينها بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها معظمهم، إضافة إلى أن المخيمات في المنطقة الحدودية لم تعد قادرة على استيعاب نازحين جدد. وقد وقفت الكثير من المنظمات الإنسانية عاجزة أمام الأعداد الكبيرة من النازحين الذين افترش معظمهم الأرض تحت أشجار الزيتون. هذا أيضاً دفع البعض الآخر للبقاء في منازلهم وتفضيل الموت تحت الصواريخ على النزوح والنوم في العراء لعدم توفر المال الكافي لاستئجار منزل.

وبحسب تقرير صادر عن فريق “منسقي الاستجابة” التطوعي بتاريخ 17/6/2019 حول الأوضاع الميدانية والإنسانية في الشمال السوري، فإن عدد النازحين من ريف إدلب الجنوبي بلغ 493913  نازحاً بين 2 شباط و17 حزيران، توزّعوا على مناطق مختلفة من ريف إدلب الشمالي.

معاناة ما بعد النزوح

لم تنتهِ معاناة النازحين بعد خروجهم من مناطق القصف، لأن عقبات جديدة ستواجههم إما على صعيد تأمين منزل مناسب، أو قدرتهم على دفع الأجرة الباهظة التي يطلبها أصحاب البيوت.

يقول أبو خالد وهو نازح من بلدة معرة حرمة في ريف إدلب الجنوبي: “هربنا من قريتنا حاملين معنا ما يلزمنا فقط لأن السيارة لا تتسع لكل متاعنا، قاصدين إحدى مدن الشمال السوري. وبعد ثلاثة أيام من البحث عن منزل في المكاتب العقارية عثرنا على شقة في الطابق الرابع مكونة من غرفتين صغيرتين، فطلب منا صاحبها مبلغ 35 ألف شهرياً على أن ندفع له سلفاً أجرة ثلاثة أشهر، مع مبلغ تأمين 100 دولار، إضافة إلى كمسيون (عمولة) للمكتب العقاري 40 دولاراً. سيضاف إليها أجرة اشتراك الكهرباء من المولدة الوحيدة في الحي والتي تبلغ 6500 ليرة سورية للأمبير شهرياً”.

أما سامر محمد علي، النازح من بلدة احسم في جبل الزاوية، فيقول لـ”بوابة سوريا”: “البعض أصبح ينظر اليوم إلى موجات النزوح على أنها موسم للربح السريع، وما يؤسف في الأمر أن من يقوم باستغلالك في بعض الأحيان قد يكون نازحاً مثلك أو مهجّراً من المفترض أن يكون من أكثر الناس إحساساً بمن ترك بيته وفرّ بحياته. فمع وصولنا إلى بلدة سرمدا بريف إدلب الشمالي وبحْثنا عن منزل لاستئجاره، وبعد رحلة بحث استمرت يومين، وصلت إلى شخص مهجّر من إحدى المحافظات يملك مشروعاً سكنياً، وطلبت استئجار شقة في مشروعه لكنه رفض، ثم عرضت عليه المبلغ الذي يريده كون الشقة فارغة وغير مؤجّرة لأحد، لكنه قال لي إنها للبيع وليست للإيجار”.

أما الطرف الآخر فكانت لديه تبريراته. يقول أبو سامر صاحب مكتب عقاري في إحدى القرى الحدودية: “بالأساس نحن نتقاضى عشرين دولاراً كمسيون على تأمين المنزل للإيجار، ولكن في أغلب الأحيان يتم تأمين المنازل عن طريق مكاتب أخرى نقوم بالتنسيق معها، فتتقسم الأجرة إلى 20 دولاراً لكل مكتب، وهذا الأمر يجهله المستأجر في أغلب الأحيان، ومن ناحية أخرى فإن من يقوم بمشروع سكني يضع فيه كل ما يملك ليجني منه ربحاً يتناسب مع القيمة العامة التي وضعها في مشروعه”.

نازحون بلا سقف

الكثير من النازحين لا قدرة لهم على استئجار المنزل، وفي الوقت نفسه لم يتمكنوا من الحصول على خيمة، في ظل غياب الخيارات أمام من نزح عن قرية دمرتها الطائرات.

علي العبد الله ربّ أسرة من قرية الفقيع في جبل شحشبو، نزح بعائلته إلى ريف إدلب الشمالي، وهو يقول لـ”بوابة سوريا”: “أنا عامل بيتون، عندما أعمل أعيش وأسرتي من مردود عملي، اضطررت للنزوح مرغماً بعد استهداف القرية بغارات جوية مكثفة مما أدى إلى تصدع منزلي. وصلت إلى بلدة أطمة للبحث منزل (على قدنا)، وطلبوا مني 75 دولاراً أدنى للاستئجار، مع دفع ثلاثة أشهر سلفاً، وهو منزل مكوّن من غرفتين تأكل جدرانهما العفونة، وبشبابيك مفتوحة بدون شبك حديدي وبلا أبواب داخلية”.

ويتابع العبد الله: “بما أنني لا أملك المبلغ المطلوب، وبعد كل التوسلات لصاحب المنزل والتي باءت بالفشل، تواصلت مع أحد أقربائي في مخيم قريب، ونزلنا عندهم في خيمتهم الوحيدة التي تجمع عائلتين اليوم”.

أما في مناطق أخرى من الريف الجنوبي، فما تزال بعض العائلات تقيم في منازلها بسبب ضيق الحال ولم تفكر بالنزوح أصلاً، فلا قدرة لهم على الأجرة وليس بإمكانهم العيش في العراء لأن كلا الأمرين مرّ، كعائلة أم علي من بلدة حاس. وحول ذلك تقول “أم علي”: “ما زلنا في البلدة ولم ننزح عنها بعد، بالرغم من استهداف الحي الذي نعيش فيه بالعديد من الغارات الجوية وصواريخ الراجمات، لأن زوجي لا يملك أجرة منزل في الريف الشمالي، والمخيمات لم تعد تتسع لوافدين جدد، ويحاول أن يشتري لنا خيمة في أحد المخيمات وهو ينتظر تأمين ثمنها”.

استثناءات موجودة

بالطبع لا يمكن التعميم، والحديث عن الجشع نسبي، فهناك أشخاص ما تزال إنسانيتهم أساساً في تعاملهم على هذا الصعيد.

يقول محمد ريان لـ”بوابة سوريا”: “وصلت مع أهلي إلى مدينة الدانا في الشمال وتواصلت مع صديق قام باستقبالنا وتأمين مكان لإقامتنا عبارة عن دكان كبير يحتوي على بوفيه ومنتفعات صغيرة، أي كأنه منزل بغرفة واحدة واسعة، وذلك بدون أية أجرة بالإضافة إلى اشتراك الأمبيرات الذي قدمه لنا مجاناً”.

أما أحمد الموسى الذي نزح من مدينة كفرنبل إلى مدينة سلقين بريف إدلب الغربي فيقول: “أقيم في مدينة سلقين منذ شهر تقريباً، في بيت استأجرته بمبلغ 15 ألف ليرة سورية بدون دفع أي مبلغ للتأمين، وبالمقارنة مع أجور المنازل في مناطق أخرى يعتبر المبلغ مقبولاً بالنسبة إليّ”.

بين القهر والموت تترنح معظم عائلات الريف الجنوبي، على أمل الوصول إلى حل قريب يخفف عنهم ما هم فيه، فيعودون إلى منازلهم التي وإن لم تكن قصوراً، إلا أنها تحتضنهم وتحنو عليهم لأن جدرانها جُبلت بعرق جبينهم.

2019-06-30

المصدر: بوابة سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى