ملابسك تصنع من دمائهم.. هذه قصة الموضة التي يسكت عنها الجميع
كاميليا حسين
كاتبة مهتمة بشؤون الأسرة والعلاقات وأساليب الحياة الحديثة
تمتلئ خزانات ثيابنا بعشرات القطع التي نشتريها كل عام من الملابس والإكسسوارات، و في كل مرة نذهب فيها للتسوق نجد قطعا مختلفة تطل من خلف الواجهات الزجاجية، نندفع في سباق محموم لشراء كل جديد، ولافتة “التخفيضات” الحمراء تُحاصرنا وتُنادينا للشراء. منذ سنوات، كان سلوك التسوق لشراء الملابس محدودا على مدار العام، أما اليوم فمن الممكن أن تشتري قطعة ملابس جديدة في كل مرة تسنح فيها الفرصة، خاصة مع تعدد الوجهات وتنوعها، لتصبح المجمعات التجارية (مراكز التسوق الضخمة) هي وجهة التنزه الأكثر شعبية والتي تضم السينما والمطعم والمقهى وملاعب الأطفال والمتاجر تحت سقف واحد، بحيث تبتلعك دون أن تستطيع الفكاك منها. تغير كل شيء، تغيرت الطريقة التي ننظر بها إلى الملابس، كيفية اختيارها وكيفية شرائها، وسيطر على الأسواق وحش الموضة السريعة.
لفهم مصطلح “الموضة السريعة” من المهم أن نفهم السياق الذي ظهرت من خلاله. حتى منتصف القرن العشرين اتبعت صناعة الموضة الدورة السنوية بمواسمها الأربعة الشتاء والربيع والصيف والخريف، حيث يقضي المصممون عدة أشهر قبل بداية كل موسم لتصميم القطع الجديدة الخاصة بها طبقا لتوقعاتهم (وهو ما لا يزال ساريا في بيوت الأزياء الخاصة بالعلامات الراقية)، لكن بمرور الوقت وتسارع وتيرة الإنتاج ازداد عدد مواسم الموضة، وصار هناك سباق محموم لتغذية المتاجر بقطع جديدة بشكل شبه أسبوعي وبأسعار تزداد انخفاضا، ليصبح لدينا 52 موسما مصغرا للموضة بدلا من مواسم الموضة التقليدية الأربعة، فيما يُعرف بـ “الموضة السريعة“.
طبقا لإليزابيث سيلين فإن متجر “زارا” الرائد في هذا الاتجاه يورد لفروعه قطعا جديدة مرتين أسبوعيا، بينما تصل لمتاجر “إتش آند إم” و”فوريفر 21″ شحنات يومية من القطع الجديدة، وهو ما يجعل المستهلك يشعر دائما بأن ما يرتديه قديم أو ليس مواكبا لأحدث خطوط الموضة.
من الذي يدفع الثمن؟
في فيلمه الوثائقي “التكلفة الحقيقية” يبحث أندرو مورغان خلف صناعة الملابس، ويطرح تساؤلات مهمة حول صناعة الموضة السريعة وما يقف خلفها من مفاهيم وآثارها على المستهلك؛ كيف يعمل مصنّعو الموضة على خلق الشعور بالحاجة عند المستهلك والتلاعب به، وما يعززه هذا الاتجاه من اتساع المسافة بين مستهلكي الموضة والعمالة القائمة على صناعتها، كما يطرح تساؤلات مهمة حول آثار ذلك على البيئة والموارد الطبيعية. كانت الولايات المتحدة الأميركية تصنع 95% من الملابس التي تستهلكها حتى الستينيات، وكان متوسط معدل إنفاق الأُسر الأميركية على الملابس والأحذية نحو 10% من دخلها السنوي (ما يوازي 4000 دولار حاليا)، وكان متوسط ما يشتريه المتسوق الأميركي العادي أقل من 25 قطعة ملابس سنويا.
بينما صارت تصنع اليوم أقل من 2% فقط، بينما يتوزع 98% من الإنتاج على الدول النامية حول أنحاء العالم، وصار متوسط معدل إنفاق الأسرة 3.5% من الدخل على الملابس والأحذية (أقل من 1800 دولار)، في حين صار متوسط ما يشتريه المتسوق الأميركي نحو 70 قطعة ملابس في السنة. وهو ما يقارب ثلاثة أضعاف ما كان يشتريه في الستينيات بتكلفة أقل من النصف، وهو تغير حاد ولافت.(2)
فكيف توصّل المصنعون لخفض تكلفة تصنيع الملابس إلى هذه الدرجة؟ يتم تصدير عملية صناعة البضائع إلى دول العالم الثالث حيث تنخفض الأجور وتكلفة التصنيع وتنخفض معايير الأمن والسلامة، فهذه الشركات لا تملك المصانع ولا توظف العمال بشكل مباشر، وهو ما يجعلها لا تتحمل أي مسؤولية تجاه العمال وتجاه حقوقهم، فالشركات تضغط على أصحاب المصانع في دول العالم الثالث، وهو ما يجعلهم يضغطون بدورهم على العمالة لدفعهم للعمل في ظروف غير آدمية، ليتم استغلالهم حيث تتراوح أجور العاملين بين دولار إلى 3 يوميا، مع العمل في ظروف غير آدمية، ويقدر عدد عمال صناعة الملابس في العالم بنحو 40 مليونا، 85% منهم من النساء، واللاتي يسلط الوثائقي الضوء على معاناتهن من خلال متابعة عاملة النسيج “شيما” التي تتحدث عن ظروف العمل القاسية في مصنع النسيج واستخدام مواد كيميائية خطرة مما يضطرها لترك ابنتها في بلدة أخرى، نتابع رحلة شيما وكفاحها لتجنب صغيرتها المصير نفسه لتنهي حديثها بجملة قاتلة وواضحة.
بنغلاديش.. كارثة رانا بلازا
حديث شيما عن الدماء ليس مجرد مجاز، فقد كان الأربعاء 24 أبريل/نيسان 2013 صفعة على وجه مصنعي الموضة، ففي هذا اليوم انهار مبنى مكوّن من ثمانية طوابق في العاصمة دكا ببنغلاديش في حادثة هي الأسوأ في تاريخ صناعة النسيج، حيث وردت عدة تحذيرات من العمال الذين لاحظوا وجود تصدعات داخل المبنى، لكن تم تجاهل هذه التحذيرات، وأُجبر العمال على العمل، لينهار المبنى فوق رؤوسهم في كارثة بشعة خلّفت 1129 قتيلا و2515 جريحا، وعُرفت بحادثة رانا بلازا أو انهيار مبنى سافار.
وعقب هذه الحادثة بفترة قصيرة اندلع حريق ضخم في مصنع آخر في بنجلاديش أدى إلى مقتل 112 عاملا. سلّطت هذه الحوادث المتتابعة الضوء على مشاكل العمال وما يعانونه في مجال صناعة الملابس في الدول النامية، لتتصاعد الأصوات المطالبة بوقف استغلال العمالة الذي يقارب العبودية والسعي نحو توفير ظروف عمل إنسانية مناسبة لهم.
القطن القاتل ودباغة الجلود
يُمثّل القطن نحو نصف مجموع الألياف المستخدمة لصناعة الملابس اليوم، وأكثر من 90% من هذا القطن يتم إنتاجه من بذور معدلة وراثيا لتقاوم آفات القطن مثل آفة دودة اللوز سعيا وراء تحسين الإنتاجية وزيادتها للحاق بمتطلبات الإنتاج المتسارعة، لكن هذا يؤدي إلى ظهور مشكلات أخرى مثل ظهور أعشاب مقاومة لمبيدات الآفات المعتادة، وهو ما يحتاج إلى استخدام مضادات أكثر سُمّية. يستخدم نحو 18% من الاستخدام العالمي للمبيدات الزراعية في إنتاج القطن، ونحو 25% من الاستخدام الكلي للمبيدات، وهو ما يؤثر بالتأكيد على البشر والماشية وعلى التربة.
ونظرا لارتفاع أسعار البذور، وارتفاع أسعار المعدات الزراعية، وعدم توافر تقنية الري الصناعي، مما يؤدي إلى نقص المحصول في بعض المواسم مع غرق المزارعين في الديون، وهو ما دفع الكثير من مزارعي القطن في الهند للانتحار، فطبقا للسجلات غير الرسمية يُقدّر معدل حالات انتحار مزارعي القطن في الهند بمعدل حالة انتحار كل 30 دقيقة.
كذلك هل فكّرت من قبل في تأثير الحذاء أو الحقيبة أو الحزام الجلدي الذي ترتديه على العالم من حولنا؟ ترتبط صناعة الجلود بمجموعة متنوعة من المخاطر البيئية نظرا لما تستنزفه من الأعلاف والمياه والوقود اللازمين لتربية الماشية اللازمة لإنتاج الجلود. كما تعد عملية دباغة الجلود واحدة من أكثر العمليات سُمّية في سلسلة صناعة الأزياء، حيث يتعرض العمال لمواد كيميائية ضارة، كما تؤدي نفايات عمليات دباغة الجلود إلى تلويث مصادر المياه الطبيعية مما يؤدي إلى ظهور أمراض قاتلة بالمناطق المحيطة، وتشير الدراسات إلى أن عمال دباغة الجلود معرضون للإصابة بخطر السرطان بنسبة تتراوح بين 20 إلى 50%.(8)
كيف تغير الموضة السريعة مفهوم السعادة لدينا؟
هل شاهدت من قبل استعراض غنيمة الملابس (clothes haul) والتي تقوم بإعداده الكثيرات من اليوتيوبرز المهتمات بالموضة؟ هل شاهدت التدافع الرهيب في أيام الخصومات الكبيرة مثل الجمعة السوداء؟ وهذا التدافع والسعي نحو امتلاك المزيد دون التوقف للتفكير ولو لدقيقة؟ كيف استطاع مُصنّعو وتجار الموضة خلق هذا الشره الذي لا ينتهي لدينا أمام الملابس؟ يستعرض الوثائقي أساليب الدعاية الممنهجة التي تربط المنتج برسالة مفادها أن حل جميع مشكلاتك وتحقيق السعادة والمكانة والكفاءة وتقبل الآخرين كلها أمور مرتبطة بالاقتناء وامتلاك الأشياء. “امتلك هذه السيارة لتثبت مكانتك”، “امتلك هذا الشامبو لتصبح أجمل فيحبك الجميع”، وهكذا، بدأ المستهلك في الربط بين اقتناء الأشياء وبين تحقيق سعادته. ومع انخفاض أسعار الملابس ازداد معدل الإنفاق عليها، ومنحت القدرة على شراء الكثير من الملابس الناس شعورا وهميا بأنهم أغنياء، لكنها في حقيقة الأمر عملية تزيدهم فقرا.
كما أن انخفاض جودة الملابس نتيجة انخفاض تكلفة تصنيعها يجعلها تتلف سريعا، وتتداعى بعد عدة مرات من استعمالها، على سبيل المثال قارن بين ملابسنا الحالية والملابس القديمة المتوارثة عن الآباء والتي حافظ بعضها على جودته رغم مرور الزمن. يزيد هذا التلف السريع من شعور المستهلك بحاجته إلى شراء المزيد ورغبته في الحصول على ملابس جديدة..
إذ أصبحوا يتعاملون مع ملابسهم باعتبارها سلعا استهلاكية سريعة التلف يمكنك التخلص منها ورميها كقطعة العلكة القديمة. وطبقا لهذا الإحصاء تتخلص الولايات المتحدة الأميركية وحدها من نحو 11 طنا سنويا من الملابس، وهو ما يزيد من التأثير السلبي على البيئة نظرا لكونها مصنوعة في الغالب من ألياف صناعية مثل النايلون والبوليستر والإكريليك فهي غير قابلة للتحلل.
لا يقتصر هذا التأثير على المخلفات غير القابلة للتحلل فقط، فعندما يتم غسيل الملابس المصنوعة من البوليستر، وهو النسيج الأكثر شعبية المستخدم في صناعة الأزياء حاليا، تتسرب بعض الأنسجة الدقيقة منه في الغسالات، حيث يُنتج غسيل الملابس نحو نصف مليون طن سنويا من هذه الأنسجة الدقيقة التي تمر عبر محطات معالجة مياه الصرف الصحي إلى البحار والمحيطات لكنها لا تتحلل، وهو ما يجعلها تُشكّل تهديدا خطيرا للأحياء المائية، فهي تزيد من نسبة المخلفات الصناعية في المياه، كما أن المخلوقات المائية الصغيرة تلتهم هذه الأنسجة الدقيقة، وبعدها تشق طريقها إلى أعلى السلسلة الغذائية حيث تلتهمها الأسماك والتي يلتهمها البشر فيما بعد.
كيف تصبح مستهلكا واعيا؟
فكّر قبل شراء أي قطعة، هل تناسب هذه القطعة أسلوبك الشخصي أم أنك اشتريتها فقط لمجاراة الموضة؟ بعد أن تعرفنا على الحركة السريعة للموضة وتواتر مستجداتها بشكل أسبوعي، فقد أدركت أن هذه القطع ستنتهي موضتها سريعا، وهو ما سيجعل مصيرها في النهاية أن تتخلص منها، قبل شراء أي قطعة فكر في مدى ملاءمتها لأسلوبك الشخصي ولقطع أخرى في دولابك.
إذا أردت أن توفر المال لا تشترِ القطع الرخيصة، بل احسب السعر الحقيقي للقطعة بحسب عدد مرات ارتدائها، على سبيل المثال يمكنك شراء حذاء لا يتجاوز سعره 20 دولارا لترتديه مرتين أو ثلاث قبل أن يبدأ في التمزق، أو تظهر الخدوش على الجلد الرديء، بينما يمكنك شراء حذاء آخر من الجلد الطبيعي الأكثر استدامة بنحو 100 دولار لتستطيع ارتداءه لعدد أكبر من المرات مع احتفاظه بشكله وقيمته. قد يبدو الحذاء الأول أرخص سعرا للوهلة الأولى، لكن بحساب عدد مرات استخدامه يصبح أغلى كثيرا.
ادعم شركات الملابس المستدامة التي تسعى نحو إنتاج الملابس بطريقة تحافظ على البيئة قدر الإمكان ولا تتسبب في إلحاق الضرر بها، وكذلك الشركات التي تتبع مبادئ التجارة العادلة وتسعى للحفاظ على حقوق العمال. بعض المتاجر تحاول القيام بجزء من دورها نحو البيئة لتحسين صورتها، فعلى سبيل المثال ظهر لدى “إتش آند إم” خط إنتاج للملابس المصنوعة من القطن العضوي، كما قاموا بتوفير حاويات لجمع الملابس المستخدمة في متاجرهم ﻹعادة تدويرها.
العودة لتفصيل الملابس هل تتذكر رحلات الذهاب للمشغل أو (الترزي) في الصغر؟ من الممكن أن تعود لتفصيل الملابس، سيوفر لك هذا فرصة لاختيار الخامات والتصميم الذي تفضله والحصول على قطعة ملابس مصممة خصيصا لتناسب جسدك، كما أنك ستساعد بهذا في الحفاظ على حرفة محلية مهمة من الاندثار.
احرص على امتلاك القطع الأساسية التي لا تندثر موضتها ولا تتغير بمرور الزمن والتي تتميز بقصاتها البسيطة وألوانها الحيادية التي تتيح لك الجمع بينها وبين القطع الأخرى للحصول على مظاهر مختلفة ومتجددة.
يمكنك إعادة استخدام الملابس القديمة بدلا من التخلص منها، إن مفهوم التخلص من الملابس بشكل سريع هو أحد المفاهيم المرتبطة بالموضة السريعة وزيادة الاستهلاك، حاول أن تعيد استخدام الملابس القديمة، يمكنك استغلال مواهبك الشخصية في الحياكة والتطريز أو اللجوء لمتخصص لمساعدتك.
اشترِ الملابس المستعملة، يمكنك الحصول على صفقات رائعة في أسواق الملابس المستعملة. كما يمكنك أيضا تنظيم فاعليات محلية مع الأصدقاء أو الجيران لتبادل الملابس التي لا تحتاجون إليها.
إيجار الملابس، إذا كنت تحتاج إلى ثوب سترتديه في حفلة لمرة واحدة ولن ترتديه مرة أخرى فما المانع من استئجاره بدلا من شرائه؟
إذا كنت تعتقد أن قطع الملابس القليلة التي تشتريها لن تُشكّل فارقا فأنت مخطئ، على كل منا دور تجاه هذا النظام المتوحش الذي يبيعنا وهم سعادة الاقتناء ويمنحنا شعورا مزيفا بالثراء بينما يستمر في استنزاف ملايين البشر الآخرين.
المصدر: ميدان