ما هو المجتمع المدني؟
أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية ميسا صالح“.
لم يسبق أن حظيت فاديا سليمان بفرصةٍ للمشاركة في أحد الأنشطة التي تنفّذها منظمات المجتمع المدني في مناطق شمال شرقي سوريا، حالها كحال من تبقّى من أهالي قريتها، حيث تنحدر السيدة الثلاثينية من قرية جم شرف في ريف مدينة ديريك (المالكية)، التي لم تصبح يوماً ميداناً لأي نشاط لهذه المنظمات.
“ارتبطت المنظمات على اختلاف أنواعها في أذهان الناس بالإغاثة، ورغم معرفتي أن المنظمات التنموية تهدف إلى تنمية المجتمع، إلا أنها لم تتمكن من إيصال المفهوم الصحيح لعملها إلى أفراد المجتمع المحلي في المنطقة” بهذه الجملة، تصف فاديا نظرتها نحو واقع منظمات المجتمع المدني التي تنشط في المنطقة وتتبنى برامج تنموية مختلفة.
يعتبر انتشار منظمات المجتمع المدني في سوريا عامةً وشمال شرقي سوريا خاصةً، ظاهرة جديدة، مقارنةً عما كان عليه الحال قبل العام ٢٠١١، والذي اقتصر على وجود بعض الجمعيات الخيرية والجمعيات التابعة للحزب الحاكم، مثل اتحاد الفلاحين والاتحاد العام النسائي وغيرهما، وسط غيابٍ لمنظمات المجتمع المدني عن المشهد.
وبعد العام ٢٠١١، نشأت منظمات المجتمع المدني الجديدة كاستجابة طارئة وسط تداعيات الحرب التي خلّفت حالة من عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي والمجتمعي، ما استدعى وجود تدخلات غير منظّمة أدت لخلق حالة من الخلط لدى المجتمع المحلي في فهم ماهية عمل هذه المنظمات.
في شمال شرقي سوريا، تم ترخيص عمل ٣٧١ منظمة محلية. تتبنى هذه المنظمات برامج تنموية وقطاعات عمل مختلفة، من قبيل بناء السلام والتنمية، ودعم حقوق الفئات المهمشة من نساء وأطفال/طفلات إلى جانب الفئة الشابة، بالإضافة إلى الدعم النفسي، وقضايا البيئة وغيرها، وذلك وفق أحدث قاعدة بيانات لدى مكتب شؤون المنظمات الإنسانية في مدينة قامشلي، وهو أحد مكاتب الجهة المسؤولة في “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” عن تنظيم عمل المنظمات بمختلف أنواعها في منطقة شمال شرقي سوريا.
أمّا رافع اسماعيل، الشاب الأربعيني المنحدر من مدينة قامشلي، فإنه يُسقط واقع عمل منظمات المجتمع المدني على ما تشهده مدينته من انقسام وتمييز في أماكن تنفيذ النشاطات من قِبل هذه المنظمات، حيث أنّ “غالبية أنشطة ومشاريع منظمات المجتمع المدني تنحسر في القسم الغربي من المدينة، وذلك بسبب وجود غالبية مقرّات هذه المنظمات فيها، بينما يعيش القسم الشرقي تهميشاً واضحاً، الامر الذي أدى إلى غياب الدافع لدى الأهالي للتفاعل مع عمل هذه المنظمات”، حسب اسماعيل.
من جهتها، توضّح لنا ناز حمي وهي ناشطة مدنية وتعمل كميسّرة لدى المبادرة السورية للحيّز المدني أنه لا يمكن لوم المجتمع المحلي على الخلط بين العمل المدني والإغاثي، وإنّ “العمل المدني كان مغيّباً في سوريا قبل العام ٢٠١١، ولم يكن المجتمع المحلي على دراية بماهية عمل هذه المنظمات، ما شكّل ردّة فعل لديه بعد ظهور ونشاط منظمات المجتمع المدني في المنطقة”.
“لقد حدث الخلط لدى منظمات المجتمع المدني نفسها، من خلال تحديد الأولويات ما بين عملها المدني الذي يكمن في التوعية والمشاركة المجتمعية والحوكمة وغيرها من جهة، والاحتياج الملحّ آنذاك لتقديم الإغاثة والاستجابة الإنسانية من جهةٍ أخرى والذي لا يُعتبر من مهامها إلا أنها انخرطت فيه.” تقول ناز وتضيف أن هذه المنظمات لم تجد أنه من المناسب تقديم جلسات توعوية، في الوقت الذي يحتاج فيه المجتمع المحلي إلى المساعدات الإغاثية، والآن، رغم وجود محاولات لتصحيح مسار عملها، إلا أن إقناع المجتمع المحلي بدور هذه المنظمات ليس بالأمر السهل، بسبب اعتياد المجتمع المحلي على تلقّي الإغاثة منها.
تطوّرٌ لم يصل إلى جوهر عمل منظمات المجتمع المدني بعد
“افتقاد سوريا لثقافة المجتمع المدني، دفع بالغالبية من النشطاء والفرق المجتمعية المحلية إلى تأسيس منظمات المجتمع المدني دون معرفة حقيقية للعمل المؤسساتي والمدني، واحتياجات المجتمع، ومعرفة توجيه الأموال بشكل جيد لحل المشكلات المجتمعية” يقول ماجد داوي وهو عضو مجلس الإدارة في مركز آسو للاستشارات والدراسات الاستراتيجية. ويضيف أن العديد من الشباب والشابات توجّهوا/ن إلى العمل المدني بسبب الظروف الاقتصادية وعدم توفّر فرص العمل في المجالات الأخرى.
يلخّص داوي النتيجة بأن الأمر أدّى إلى توجّه معظم هذه المنظمات إلى التركيز على العمل الإنساني والإغاثي بالدرجة الأولى، على حساب تحقيق السلام وحل النزاعات، وتعزيز الحوار والمشاركة، وإصلاح السياسات، والتي تعتبر ركيزة عمل منظمات المجتمع المدني.
الرؤية سابقة الذكر حول عمل منظمات المجتمع المدني لا تقتصر على رأي الناشطين والناشطات في منظمات المجتمع المدني فقط، فقد ظهرت نتائج مشابهة في دراسات ومسوح لمراكز دراسات وأبحاث كانت قد نفّذتها لتقييم واقع منظمات المجتمع المدني، ففي تقريرٍ أعدّه مركز “إمباكت” للأبحاث، في المرحلة خلال عامي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، استهدف فيه عبر استطلاعٍ ما مجموعه ٧٦٧ منظمة من منظمات المجتمع المدني، توزعت ٩٠٪ منها داخل سوريا، ٢٢٢ منظمة تعمل في مناطق شمال شرقي سوريا.
أظهرت إحدى النتائج أن أكثر مجالات العمل شيوعاً بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني هي: الإغاثة الإنسانية والخدمات الاجتماعية بنسبة ٥١٪، تليها التنمية بنسبة ٤٩٪، والتعليم بنسبة ٣٦٪، والصحة بنسبة ٣٥٪.
“لا أعتقد أنه من الصواب تسمية الاتحادات والجمعيات في المنطقة بالمجتمع المدني.” يقول آلان حسن المدير العام لمنظمة نيكستيب/NEXTEP (وهي منظمة مجتمع مدني محلية مركزها في مدينة قامشلي)، مشيراً إلى أن مصطلح المجتمع المدني قد وصل من أوروبا بعد تاريخٍ طويل من التطوّر الفكري، والذي بدأ منذ القرن السابع عشر في كل من هولندا وإنجلترا، إلى أن وصل لتعريفه الحالي للاتحادات والجمعيات، على حد تعبيره.
يضيف آلان إنّ “استخدام مصطلح المجتمع المدني يتطلب وجود أفرادٍ أحرار/حرّات، إلى جانب تمفصل المجتمع عن الدولة، حتى يكون قادراً على إنتاج نفسه خارج آليات العنف التابعة للدولة، بالإضافة إلى مدى تفوّق العلاقات التعاقدية بين المواطنين/ات على الانتماءات العضوية، وإن هذه الشروط غير موجودة في بلادنا في الوضع الراهن، وبالتالي، فإننا أمام استنساخٍ لمصطلح لا يعبّر البتّة عما نعيشه حالياً”.
من جهتها، توضّح ناز حمي أنّ بعض المنظمات تلعب دوراً في استمرار انتشار الفكرة المغلوطة، حيث لا يزال البعض منها يمتثل لتوجهات الجهات المانحة لتحقيق استدامتها، دون التفكير بما يسبّبه الأمر من ضرر لمفهوم المجتمع المدني، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر غير مقصود، كونه محاولة للحفاظ على مصدر استدامتها الوحيد حالياً وهو الجهات المانحة.
ريما خالد سيدة ثلاثينية من مدينة عامودا، لم يسبق لها أن شاركت في استبيانٍ يعود إلى إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في المنطقة فيما يخص تصميم المشاريع، وانطلاقاً من ذلك، فإنها تجد أن ضعف عملية تقييم الاحتياجات لدى هذه المنظمات، وعدم إشراك أفراد المجتمع المحلي في هذه العمليات، سبب رئيسي لالتباس فهم جوهر عمل هذه المنظمات من قِبله.
تحدّيات لا يمكن تحقيق التنمية وبناء السلام دون تجاوزها
“توزيع الإعانات والسلل الغذائية جزء من مرحلة الاستجابة الطارئة، وتسبق الاستقرار الذي يليه مرحلة التعافي وبناء السلام، إلا أن اعتماد المجتمع المحلي على هذا النوع من الإغاثة، قلل من درجة مساهمته في عمليات التنمية وبناء السلام” يقول حسن الشعيب الناشط في مجال المبادرات التنموية.
هذه النظرية يمكن تأكيدها من خلال المعطيات على أرض الواقع، من خلال زيادة توجه المنظمات إلى توزيع الإغاثة عند وجود أحداث طارئة وموجات نزوح مؤقتة، واستمرت المنظمات في هذا المسار، لكن بعد انهيار الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، فقد زاد الطلب المجتمعي على توزيع الإغاثات، وهنا تجلّت الاتكالية المجتمعية، ووضع منظمات المجتمع المدني في إطار توزيع الإغاثة فقط، وعدم تقبّل العمل التنموي من قبلها، بحسب حسن.
أما ناز حمي فتشير إلى أنّ الجهات المانحة تلعب دوراً في التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني، كونها توجّه عمل هذه المنظمات، وتؤثر بذلك سلباً على التوجّه الصحيح لمنظمات المجتمع المدني، إلى جانب تأثير السلطات المحلية وما تفرضه عليها من إجراءات وقوانين، تمنعها من العمل بأريحية.
“تواجه هذه المنظمات العديد من التحديات الأخرى من قبيل توفّر الكوادر الذين/اللواتي يلعبون/ن دوراً في تشكيل الصورة العامة للمجتمع المدني، حيث تخسر الكثير من المنظمات كوادرها المؤهلة لصالح المنظمات الدولية أو نتيجة هجرتهم/ن.” تقول ناز وتُرجِع السبب إلى أن المردود المالي المرتفع لدى المنظمات الدولية والراحة الأكبر في عملها، وتوفّر فرص أفضل للهجرة، تشكّل دافعاً لدى نسبة من هذه الكوادر للالتحاق بها.
إشراك المجتمع المحلي وفهم جوهر العمل المدني.. سبيل للوصول إليه
تبحث منظمات المجتمع المدني في شمال شرقي سوريا عن آليات لتطوير عملها، وحلول لزيادة فرص إشراك المجتمع المحلي ضمن أنشطتها، وبناءً على ذلك فقد برز استخدام نظام “الكوتا” كإحدى الأدوات التي تساهم في إحداث التغيير فيما يتعلق بتمثيل إحدى الفئات المهمشة في المجتمع، وقد اتّبعتها منظمات المجتمع المدني، في محاولةٍ منها لفرض تمثيل هذه الفئات في مراكز صنع القرار، وفي الأنشطة المختلفة.
وعلى سبيل المثال، تتبع منظمة نيكستيب/NEXTEP، التي يديرها آلان حسن، بعض الإجراءات التي تضمن إشراك أفراد من المجتمع المحلي في نشاطاتها، من الذين/اللواتي لم يسبق لهم/نّ المشاركة في النشاطات المدنية، يقول آلان “في خطوةٍ منّا لإعادة بناء الثقة مع المجتمع المحلي، قمنا بتخصيص “كوتا” لهم/نّ، كما هو الحال بالنسبة للنساء وللفئة الشابة، وكذلك من خلال سبر احتياجاتهم/نّ بشكل مستمرّ، وتصميم التدخلات بناءً عليها، إضافة إلى تبنّي قضاياهم/ن عبر محتوى إعلامي تقدّمه منصّة نيكستوري التابعة لنيكتسيب، والمعنية بالإعلام الإنمائي، ويتلخّص ذلك في شعارها اللفظي: القصّة هي أنتَِ”.
يرى حسن أنّ هناك حاجة فعلية إلى عمليات تقييم احتياجات صحيحة، وتنفيذ مشاريع تحقق التنمية الاقتصادية المحلية، ومتابعة أثر هذه المشاريع، كما أنه من واجب هذه المنظمات الضغط على صنّاع/صانعات القرار لتحسين السياسات الاقتصادية والزراعية في المنطقة، ونشر ثقافة المواطنة، عبر مبادرات مجتمعية، وأخيراً، تحويل المستفيدين/ات إلى مشاركين/ات ومفيدين/ات، وذلك من خلال وضع نظرية تغيير مبنية على التنمية.
تعزيز الشفافية والمسائلة في العمليات التنظيمية والمالية، من شأنها إعادة بناء ثقة المجتمع المحلي بهذه المنظمات، إلى جانب ضرورة التنسيق والتعاون مع وسائل الإعلام المحلية، لنشر المفهوم الصحيح لعمل منظمات المجتمع المدني، ولا يقتصر التنسيق على وسائل الإعلام فقط، بل يجب إشراك قادة/قائدات المجتمع ذوي/ات التأثير كمدافعين/ات عن جوهر عمل منظمات المجتمع المدني، بحسب ما يوضّحه ماجد داوي.
بحسب دراسة أجراها مركز “إمباكت” للأبحاث، فإن البيانات التي تم جمعها من العاملين/ات في المنظمات، تشير إلى أن هناك محدودية في فهم جوهر الدور الواجب أن يضطلع به المجتمع المدني نظرياً بما هو مساحة للتغيير، وتوضح الدراسة أن ثلثيّ العينة يحصرون/ن عمل المجتمع المدني في الاستجابة الإنسانية والاستجابة لظروف الصراع، إذ إنه وعلى الرغم من أهمية الاستجابة الإنسانية، إلا أن جوهر الدور يكمن بكونه نشاط تغييري نحو الديمقراطية وصيانة الحقوق والحريات.
ولتحقيق ذلك وفق وجهة نظر الناشطين/ات في منظمات المجتمع المدني المتحدثين/ات أعلاه، لا بد من القيام ببعض الإجراءات سواءً أكان تخصيص كوتا للمجتمع المحلي في تصميم المشاريع وتنفيذها، والتركيز بشكل أكبر على احتياجات المجتمع المحلي في المشاريع المنفذة في المنطقة، وذلك من خلال تفعيل تقييم حقيقي لاحتياجاته، إلى جانب تعزيز الشفافية والمسائلة في العمل المؤسساتي، وأخيراً تكثيف الجهود نحو تحسين الواقع الاقتصادي كحل نحو تعميق أثر العمل التنموي في المنطقة.
“لديّ كما باقي شباب وشابات المنطقة، طاقات غير مستثمرة بالشكل الأمثل، يقع على عاتق منظمات المجتمع المدني استثمارها، ومساعدتنا في تفعيل هذه الطاقات حتى نساهم في ازدهار مجتمعاتنا التي رفضنا تركها أمام مغريات الهجرة،” تقول فاديا سليمان.
المصدر: «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت».