مقالات

“قيصر” في فيلم تركي

سيعرف أي مشاهد سوري، أو متابع للقضية السورية، منذ بداية الفيلم التركي “ذاكرة متنقلة” المنتج حديثًا، والذي عُرض ليوم واحد في صالتي عرض بمدينة اسطنبول، أن القصة التي سيحضرها هي قصة “قيصر” ذلك المصور الذي سرّب آلاف الصور لضحايا التعذيب في سجون النظام السوري، وحملها إلى الولايات المتحدة لتتسبب بسلسلة عقوبات استهدفت شخصيات ومؤسسات سورية. لكن ما إن تتتالى مشاهد الفيلم حتى تتغيّر معالم الحكاية، وتتبع بناء سرديًا غير محكم، يعتمد الخيال مبنيًا على الوقائع غير المنقولة بدقّة.
أكثر ما يمكن أن يستغربه مشاهد متابع للسينما التركية تاريخيًا، أن يجد اسم درويش زايم عرابًا لهذا الشريط الذي ليس من الإجحاف بمكان إن وُصف بالرداءة، المخرج الذي قدّم تاريخيًا مجموعة مهمة من الأفلام المحكمة البناء، والخاصة بصورها وقصصها، ولعل فيلمه “شقلبة في النعش” المنتج سنة 1996 تحفة فنية من تحف الشاشة الفضية التركية.

ملازم في الجيش يصاب بحادثة إطلاق نار في مطلع الثورة السورية، لتتم إحالته إلى قسم تسلّم وتسجيل بيانات القتلى تحت التعذيب في المعتقلات، فيقوم بتصوير الجثث بعد أن يضع فوقها أوراقًا تحمل أرقامها، ليعيش صراعًا داخليًا بين أخلاقه وإنسانيته وبين هذا العمل، فيهرب مع زوجته باتجاه تركيًا حاملًا معه “فلاش ميموري” تحتوي الصور التي كان يلتقطها، والتي من المفترض أنها صور “قيصر”، لكن البناء على قصة “قيصر” ينتهي عند هذا الحد، فقصة “قيصر” أصلًا حتى الآن غير واضحة المعالم، حياته واسمه الحقيقي وطريقة خروجه من سوريا حتى يومنا هذا هي رهن الإخفاء، وهو ما يفتح قريحة المخرج لبناء قصته الخاصة، التي يريد لها أن تتناول كل جوانب الصراع السوري، بفصائله العسكرية، من قوى النظام إلى “الجيش الحر”، إلى “داعش” بالتأكيد، “داعش” ذلك التنظيم الذي تحول إلى شرط موجب لشهرة أو دعم أي شريط سينمائي يخرج من سوريا. فيلم عن سوريا بلا علم أسود لم يعد مقبولًا في عرف الإنتاج السينمائي العالمي اليوم.
تبدأ معك كمشاهد مظاهر ضعف البناء في الفيلم، بعدم قدرته على نقل البيئة السورية، هذه الأمكنة التي تراها من شوارع ومنازل ليست سورية على الإطلاق، ولا يكفي تشابه البيت أو الشارع أو الشكل العمراني في المدن التركية مع نظيره في سوريا، لأن يوحي بأن المكان سوري، كما أن رحلة الهروب إلى تركيا تبدو غير مدروسة على الإطلاق، بمعناها الحقيقي لا الواقعي، رحلة مثل هذه لا يمكن البناء عليها افتراضيًا، بمعنى لا يمكن أن يراها المخرج بأنها المكان الذي سيبني فيه تخيلاته، وسيوصل المأساة إلى ذروتها فيه، بمعزل عن حقيقة ما يجري على الأرض، فالرحلة بكل مشاهدها وتفاصيلها السينمائية تبدو عارية تمامًا أمام أي مشاهد سوري، شكل عذابات الرحلة مختلف، الوقت الأطول في هذه الرحلة يقضيه المسافر قبالة الحدود التركية، منتظرًا غفلة الجندرما التركية عنه، أو إمكانية تكوين ثغرة يعبر من خلالها الهاربون، وهو ما لم يظهر في الفيلم، بل إن العبور عبر السياج إلى تركيا بدا أسهل الخطوات، بل والعودة منه مجددًا. رحلة العبور تلك افتقدت إلى الضبط الزمني أيضًا، فببساطة يمكن للهارب أن يعود ويحضر النقود التي طلبها منه القيادي في “داعش” لكي يعطيه حرية زوجته. أما “الفلاش ميموري” التي يتركها البطل بجانب صخرة على الأرض، فيعود بعد انقضاء الرحلة كلها ليجدها في مكانها، المكان الذي من المفترض أنه شهد معركة وقصفًا وحريقًا ومرور عدة قوى عسكرية منه، سوى أنه مكان معلّق بين سيطرة هذا وذاك.
ليست القصة، واختلاف البيئة، وجهل القائمين على الفيلم بتفاصيل القضية السورية الدقيقة اللازمة لأي بناء سينمائي يحكي عن سوريا، هي مشكلات الفيلم فحسب، إنما أيضًا انتقاء الممثلين لم يخرج عن سياق الفوضى العامة في الفيلم، ضعف الأداء جاوز لدى أغلبية الممثلين، إن لم يكن كلهم، مجمل نقاط الضعف الكثيرة في الفيلم، لتسأل نفسك بعد الخروج، عجبًا لماذا أُنتج هذا الفيلم؟

المصدر : عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى