مقالات

عصيّ على أجناب السوريين.. الضرب ظاهرة متجذرة في المدارس السورية

عالية كمال الدين

ذهب أثر الصفعة من وجه فيحاء في فترة قصيرة، لكنها تركت ندبة داخلها، دفعتها لتذكر ذلك الموقف في شتاء عام 2009، بعد 11 عامًا.

طلبت منها حينئذ مدرّسة الرياضيات أن تخرج لحل سؤال على السبورة، لكن الارتباك والخوف من إجابة غير صائبة تصيبها بالخزي أمام الطلاب منعاها من الكلام، فكانت الصفعة التي تلقتها على وجهها مع سيل من الإهانات اللفظية.

قالت فيحاء، إن عمرها لم يكن يتجاوز تسعة أعوام، وكانت طالبة بالمرحلة الابتدائية في إحدى مدارس دمشق، ورغم ذلك لم تنسَ الحادثة.

تجربة فيحاء ليست فريدة في المجتمع السوري، بل ما زالت تتكرر في المدارس، كمحاولة من المدرّسين لعقاب تلاميذهم الصغار، أو حتى الطلاب في المراحل الدراسية المتقدمة.

عنب بلدي حصلت على 30 شهادة لسوريين وسوريات تتراوح أعمارهم بين 18 و50 عامًا، أكدوا جميعهم أنهم تعرضوا للعنف في مرحلة من مراحل حياتهم الدراسية، وتحدثوا عن كرههم للمدرسة، وتشكّل عقد متعلقة بمواد على وجه الخصوص لديهم بسبب العنف المتكرر من المدرّسين.

وجود شريحة عمرية صغيرة ضمن الشهادات التي حصلت عليها عنب بلدي، يؤكد أن العنف في المدارس مستمر في الوقت الحالي، رغم مضي أكثر من 30 عامًا على قرار منع الضرب في المدارس السورية، وما تبعه من تعميمات تمنع ذلك.

آثار مجتمعية حتمية

إن الخوف والضغط الناجمين عن العقاب البدني هما من الأسباب الرئيسة التي تجعل الأطفال لا يحبون الذهاب إلى المدرسة أو يعانون من رهاب المدرسة، ما يؤدي في كثير من الحالات إلى التسرب المدرسي وانخفاض معدلات الاستمرار بالدراسة، وخاصة في المدارس الثانوية.

والأطفال الذين يتلقون أو يشهدون عقابًا بدنيًا، لديهم أيضًا درجات أكاديمية متدنية، بحسب دراسة أجرتها منظمة “Young Lives” البريطانية المتخصصة في شؤون الأطفال واليافعين عام 2015.

إحدى الشهادات التي حصلت عليها عنب بلدي لسيدة أربعينية، تحتفظ في ذاكرتها بتفاصيل الصف الأول في مدرستها بمنطقة سرغايا بريف دمشق، عام 1980.

“كان المدرّس يأتي بالماء في شتاء سرغايا، والثلج يتساقط في الخارج، ويضعه على أقدام الطالبات الكسولات قبل ضربهن بالعصا عليها”، لكن الطالبات بقين كسولات في جميع مراحلهن التعليمية، بحسب تعبيرها.

تشبّه السيدة التي درست بين عام 1980 و1985 العنف في مدارس ريف دمشق الابتدائية، بالعنف الممارس بأفرع المخابرات الجوية، “فهي أماكن لا تمت للمؤسسات التربوية بصلة”.

شابة أخرى من مدينة حلب تحدثت عن طفولتها في عام 2010 عندما كانت في طالبة في إحدى المدارس، فمهما كانت تفعل لا تستطيع إرضاء المدرّس، وتصف تعامله بالمزاجي والظالم، معتبرة أن توبيخ الطلاب لا يوفر لهم أي إرشادات حول كيفية القيام بعمل أفضل في المرة المقبلة.

والعقوبة الجسدية تجعل الأطفال يشعرون بالإذلال والخجل من أنفسهم، بحسب تعبير الشابة وفق تجربتها، فقد شعرت بالخزي ذات مرة عندما تلقت ضربات متتالية باستخدام العصا لأنها تأخرت عن الصف قليلًا.

ومن أسوأ الآثار المجتمعية لتعنيف الأطفال، أن دائرة العنف تزداد وتتسع وتنتقل من جيل إلى آخر، لأن الطفل المعنَّف يصبح مُعنِّفًا في بعض الحالات، ويعتمد العدوانية في التعامل مع كل مناحي حياته إذا لم يتلقَّ العلاج المناسب، بحسب ما قالته الاختصاصية النفسية صبا بيطار، لعنب بلدي.

عنف مؤذٍ جسديًا

في استطلاعٍ للرأي أجرته عنب بلدي على صفحتها في “فيس بوك” شارك فيه أكثر من ألفي مستخدم، طرحت سؤالًا مفاده “هل تعرضتَ لأحد أشكال العنف اللفظي أو الجسدي من المدرّسين خلال رحلتك الدراسية في سوريا”، أجاب الأغلبية بـ”نعم” بنسبة 86%، بينما أجاب 14% بأنهم لم يتعرضوا لأي عنف خلال رحلتهم الدراسية.

وشارك المستخدمون قصصهم التي تطرقت لحوادث عنف تحولت لإصابات جسدية كحادثة كسر فيها الأستاذ يد الطالب، وبدأ يكبر كرهه للمدرسة منذ تلك اللحظة، ورافقه إلى سن الإعدادية، ثم ترك المدرسة بسبب العنف المتكرر الذي عاشه.

ولم تخلُ القصص التي شاركها المتابعون من وصف جميع أنواع الإهانات اللفظية والتعنيف الجسدي، فيقول أحد المعلّقين، إن المعلم كسر العصا على يده وهو في الصف الرابع، وكان يربط “فولاره” (ربطة للعنق يضعها الطلاب السوريون حسب الصف المدرسي) بإحدى زميلاته الكسولات بالصف، ويتجول بهما بين الصفوف كنوع من الإهانة لهما.

إحدى المستخدمات وصفت مدرستها في مدينة دمشق بالمسلخ، لما تتعرض له الفتيات فيها من الضرب والتعنيف الجسدي، وتحدث آخر عن الضرب بسلك الهاتف الأسود وبالخراطيم.

آثار نفسية عميقة

الضرب هو تمهيد لسلسلة من الاضطرابات النفسية والأمراض، التي تتسع دائرتها تبعًا للظروف المحيطة لكل طفل مُعنَّف، وفق ما أكدته الاختصاصية النفسية فاطمة أسعد الأسعد، خلال حديثها إلى عنب بلدي عن الأثار النفسية التي تظهر على الطفل المعرض للعنف.

تبدأ تلك الاضطرابات بإضعاف شخصية الطفل وهز صورته الداخلية عن نفسه، فيعيش بمشاعر سلبية مثل “الغباء، العجز، الفشل، السوء، الشعور بعدم القبول عند الآخر”، لتمتد هذه الآثار إلى التراجع في المهارات والأداء الدراسي والسلوكي، وقد ينتج عن هذا التراجع تلاشٍ لموهبة أو مهارة مميزة قد تكون عند الطفل بعد الإساءة اللفظية أو الجسدية.

وشعور الخوف من أقوى المشاعر التي يعيشها الطفل بسبب العنف بحسب ما قالته الأسعد، إذ يخاف الطفل من أي تصرف يقوم به لعدم توقع رد الفعل التي سيتلقاها، كما يحرمه الشعور بالأمان، فيخاف من أي شخص يكبره سنًا، أو يملك سلطة عليه.

وفي دراسة أجرتها جامعة “Michigan” الأمريكية في عام 2018، وجدت أن العقاب البدني يتسبب في “الإجهاد السام” عند الأطفال، ما قد يؤدي إلى تغيير بنية دماغهم في أثناء الطفولة المبكرة، وقد يؤثر سلبًا على قدراتهم المعرفية واللغوية، والنمو الاجتماعي والعاطفي، والصحة العقلية.

ويرتبط سوء المعاملة في أثناء الطفولة أيضًا بالنتائج الصحية السلبية والأمراض المزمنة في حياة البالغين، مثل أمراض القلب أو السرطان أو أمراض الرئة المزمنة أو السمنة أو ارتفاع ضغط الدم.

وذكرت أن الأدلة الدامغة لا تترك مجالاً للشك في أن العقاب البدني من قبل المعلمين يحدّ من رفاهية الأطفال وتعليمهم، وقدرتهم على أن يصبحوا بالغين ناجحين وفاعلين في الحياة اللاحقة.

هل ينصف القانون السوري الأطفال؟

لا توجد مادة صريحة في قانون العقوبات السوري تحمي الطفل من تعنيف ذويه أو أي شخص آخر باعتباره من الفئات المستضعفة في المجتمع، بحسب ما يقوله المحامي السوري عبدو عبد الغفور، في لقاء سابق لعنب بلدي، مشيرًا إلى أن هناك مادة واحدة في قانون العقوبات تسمح للأهالي بضرب أولادهم تحت اسم “ضروب التأديب”.

وتُجيز المادة “185” من قانون العقوبات السوري “ضروب التأديب التي ينزلها بالأولاد آباؤهم وأساتذتهم على نحو ما يبيحه العرف العام”، إذ فسر المحامي عبدو عبد الغفور تلك المادة بأنه في حال تعرض الطفل للضرب من قبل أحد والديه أو أساتذته دون أن يترك الضرب أي أثر، فإن القائم بفعل الضرب يحصل على “عذر محلّ”، أي تسقط عنه العقوبة بالكامل تحت بند المادة السابقة.

الأمم المتحدة تصف العقاب البدني بأنه ينتهك حقوق الطفل، بحسب “اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل 2007″، وتتضمن المادة 19 من الاتفاقية جميع أشكال العنف الجسدي والعقلي، بينما تنص المادة 28 على أن الانضباط المدرسي يجب أن يكون متسقًا مع “الكرامة الإنسانية” للأطفال.

والعقوبة الجسدية محظورة قانونًا في مدارس 128 دولة، ويسمح بها في 69 دولة أخرى وفقًا لموقع “المبادرة العالمية لإنهاء كافة أشكال العقاب الجسدي ضد الأطفال“.

مجتمع يكرّس الظاهرة وأساتذة دون أدوات.. ما الحل؟

أحد أهم الأسباب التي تكرّس العنف في المجتمع بحسب الاختصاصية النفسية فاطمة أسعد الأسعد، قبوله بالعنف في المدارس وإباحته والتعامل معه باعتباره أمرًا طبيعيًا، فلا مشكلة في صفع الأستاذ لطلابه، أو إهانتهم وشتمهم، ولا يوجد من يعترض.

ولحل هذه المشكلة يجب نشر الوعي عند الأهل، وتوضيح مخاطر تجاهل العنف الذي يتعرض الطفل له، والعمل على استرداد حق الطفل في حال تعرضه للتعنيف، وتوجيهه لرفض العنف الممارس تجاهه، وهذا يعتبر أمرًا مهمًا ليتجاوز الطفل المشاعر السلبية التي عاشها.

وتُرجع الاختصاصية النفسية صبا بيطار استخدام المدرّسين العنف في المدارس، إلى افتقار المعلم لأساليب التعامل التربوي السليم مع مختلف المشكلات أو الشخصيات التي يتعامل معها.

ومن الحلول التي أشارت إليها الأسعد، والتي تعتمد بشكل رئيس على الأسرة والمدرّسين، حيث تقوم على تعزيز الجميع لفكرة “العنف ليس مقبولًا بأي حال من الأحوال” عند الطفل، وتتحول المدرسة إلى بيئة آمنة، يستطيع الطفل من خلالها التعبير عن نفسه.

ولتفادي تعرّض الطفل للعنف، يجب تعزيز ثقته بنفسه وزيادة قوته البدنية للدفاع عن نفسه، وخلق مساحة ثقة بين الأهل والطفل ليشارك تفاصيل يومه، والاستعانة بهم لاسترداد حقه في حال تعرض للتعنيف.

وخطوات العلاج للآثار النفسية المترتبة على ذلك تعتمد على مدى تعرض الطفل للعنف في المدارس، وعدد المرات وشدتها، فهو يتراوح ما بين الجلسات الإرشادية والتثقيفية البسيطة، إلى جلسات علاجية متخصصة، عليه بحسب بيطار.

المصدر : عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى