مقالات

سوريا والبحث عن دستور

يعلم جميع المعنيين بالقضية السورية أن اللجنة الدستورية التي يتم تشكيلها الآن لا تملك حلاً حاسماً للقضية السورية حتى لو أنجزت أفضل دستور في العالم، وفي الخبرة العربية مقولة شهيرة (اقرأ تفرح، جرب تحزن) فكل الدساتير التي ظهرت في عهد حزب «البعث» جعلت الحرية شعارها الأوسط بين (الوحدة والاشتراكية) وثالوث الرسالة التي بشر بها حزب «البعث» لم يتحقق منه شيء عبر نحو ستة عقود، ولست هنا في معرض الحديث عن أسباب فشل تحقيق الشعارات، فالمهم أن الأمور بخواتيمها، فالوحدة التي كانت حلم الجماهير السورية، وصلت إلى الحد الأدنى من التضامن العربي، وأما الحرية فقد باتت رابع المستحيلات، وأما الاشتراكية فقد باتت دعاية لمنتج توقف مصنعه عن إنتاجه مع انهيار الكتلة الاشتراكية في العالم كله، وقد طرحت كثيراً على أصدقاء ذوي شأن في «البعث» أن يعيدوا النظر في هذه الشعارات التي باتت وهمية، وأن يقدموا تعريفاً لشعار أكثر تعمية، وهو شعار الرسالة الخالدة التي لم يفهم أحد ماهيتها، والمفارقة أن هذه الشعارات باتت أعلى شأنا وقدسية رسمية من الدستور، ومع أن كل الدساتير التي صدرت تحدثت جميعاً عن الحرية للشعب وللأفراد، ولاسيما حرية التعبير والمعتقد، إلا أن التغول الأمني داس على الحرية وعلى الدستور معاً، وما لم تتغير بنية السلطة الأمنية فلا أمل في الوصول إلى الحرية، وهذا هو جوهر الصراع في سوريا.

لكن المتغيرات الدولية في مطلع التسعينيات دعت السلطة إلى الخروج ولو بمقدار بسيط من عنق الزجاجة، فتمت توسعة مجلس الشعب ليضم (85) مستقلاً، وكانت هذه خطوة مديدة للاعتراف بحق من ليسوا أعضاء في الحزب الواحد الحاكم بالمشاركة السياسية، لكن القوى المتنفذة في السلطة قاومت هذا الحضور الجديد، ولم تسمح للمستقلين بأن تكون لهم مشاركة جادة، وبعد منتصف عام (2000) ودخول سوريا في عهد جديد سمحت بعض أجهزة الأمن بإطلاق منتديات سياسية بدأت تتحدث علناً وبصوت مرتفع عن الحاجة إلى الحرية، وإلى التغيير نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية والانتهاء من الدولة الأمنية، وإلى سيادة القانون، لكن الأجهزة الأمنية سرعان ما انقضت على هذه الدعوات الوطنية، وبدأت سلسلة الاعتقالات التي لم يكن لها مسوغ قانوني، وكان بالإمكان استيعابها بالحوار، ولاسيما أنها لم تخالف مواد الدستور الأساسية، وحين علا شأن حكومة عام 2006 وما بعدها، وبدت خارجة من قبضة أجهزة الأمن ومنتقدة لسلوكها، اشتدت الاعتقالات حتى بين صفوف الموظفين، وعطلت هيئة الرقابة والتفتيش لتقوم الأجهزة الأمنية بدور ليس من وظيفتها، وقد شكونا ذلك رسمياً، لكن الأجهزة العسكرتارية كانت هي الأقوى، وهي التي تمترست خلف مصالحها ومكانتها في البلاد، وهي التي عززت ما سمي الحل الأمني في مقاومة انتفاضة الشعب الباحث عن الحرية سلمياً عام 2011، ولم تكن ثمة حكمة تجنب البلاد ما حل بها من خراب ودمار.

وهذا ما يجعل البحث اليوم عن دستور جديد في ظل هذه الأجهزة ذاتها عملاً بلا جدوى، وقد فهم المشرعون في مجلس الأمن هذه الحقيقة حين جعلوا إنشاء هيئة حكم انتقالي سابقاً لتشكيل لجنة لوضع الدستور الجديد، وأوكلوا هذه المهمة لهيئة الحكم التي تنتقل إليها الصلاحيات كاملة، ليضمنوا حرية اللجنة وخروجها من سلطة الأجهزة الراهنة الحاكمة، فتكون حرة في التفكير والتخطيط، والعجب أن تقوم الأمم المتحدة بهذا التجاوز المريع لقوانينها، وهي تعلم أن مهمة ممثلي السلطة في اللجنة هي الدفاع عن الصلاحيات الرئاسية النافذة في دستور 2012، والحفاظ على مؤسسة الحكم الراهنة دون أية استجابة لمطالب الشعب، وحتى لو حدث تغيير طفيف فما قيمته إن لم تكن هناك سلطة قادرة على تنفيذه؟ وهذا ما يدعونا إلى التمسك بالقرار 2254 وعدم التنازل عن أسبقية تشكيل هيئة حكم انتقالي تقود عملية وضع دستور جديد لسوريا، وتؤسس بجدية لدولة مدنية ديمقراطية.

د.رياض نعسان أغا

المصدر:  المرصد السوري لحقوق الإنسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى