مقالات

خمسة أسباب أدت إلى أسرع انهيار في تاريخ الليرة

إياد الجعفري

خلال 14 يوماً فقط، فقدت الليرة 25% من قيمتها، في العاصمة دمشق، في أسرع وتيرة انهيار، تعيشها العملة السورية، في تاريخها، على الإطلاق. فكيف وصلت الليرة إلى هذه الحال؟

شريان أبناء سوريا يتقطع

أولى الأسباب، برزت في الأسبوع الأول من شهر رمضان. فبعد أن تنفست الليرة، الصعداء، لبرهة، مع ازدياد الطلب عليها بسبب حاجة السوريين للسيولة بهدف توفير احتياجاتهم، قبيل الشهر الفضيل، وهو ما ترافق مع تدفق شيء من العملة الصعبة، مع الحوالات الخارجية القادمة من المغتربين إلى أهاليهم في الداخل، سرعان ما امتصت السوق العطشى للدولار، كل ذلك، لتنعكس المعادلة سريعاً.

ورغم أنه يستحيل إحصاء ما دخل إلى سوريا من عملة صعبة، مع حوالات المغتربين، التي عادةً ما تصل ذروتها في مواسم رمضان والأعياد، إلا أن آثار السيولة التي دخلت إلى البلاد، كانت جليّة، بصورة تؤكد أنها سيولة ضئيلة للغاية، وأقل مما هو معتاد. إذ ارتفع سعر صرف الليرة، قبيل رمضان، 3% فقط. لتفقد الليرة هذا المكسب الضئيل، خلال أسبوع واحدٍ فقط.

لماذا كانت الحوالات ضئيلة؟

في دول الجوار، ودول الخليج، حيث يعمل مئات آلاف السوريين، الذين يدعمون أهاليهم في الداخل، فُرضت قيود مشددة، مع مساعي مكافحة تفشي فيروس “كورونا”. وشلت تلك القيود معظم الأنشطة الاقتصادية، وكذلك نشاطات الصرافة والحوالات، التي أُغلقت تماماً في بعض دول الخليج، وترافقت مع قيود على الحركة والتنقل في تركيا. وفي الأخيرة، التي تشكل شرياناً رئيسياً لدخول العملة الصعبة إلى سوريا، كان من الصعب على الصرّافين، الحركة، ونقل الأموال. ولانعزال سوريا بصورة شبه كاملة عن المنظومة المصرفية العالمية، واعتمادها بشكل كبير على قنوات “السوق السوداء” في تحصيل القطع الأجنبي، ومع القيود المشددة على حركة الصرّافين بسبب “كورونا”، شحت الحوالات التي تمكنت من دخول البلاد، وسرعان ما تلاشت في سبعة أيام فقط.

وما عزز شح السيولة القادمة من الخارج، توقف الأنشطة الاقتصادية تماماً، في معظم الدول التي يعمل فيها سوريون، مما انعكس على أوضاع هؤلاء الاقتصادية، وبالتالي، على ما يستطيعون تحويله لأهاليهم في الداخل.

إعلان موعد “سيزر”

امتصاص السيولة القادمة من الخارج، من الحوالات الشحيحة، كان له سبب آخر يتمثل في تفاقم الطلب على الدولار، بعد انتهاء موجة الطلب على السيولة السورية، قبيل رمضان. فمع رغبة بسطاء السوريين في تلبية حاجاتهم للشهر الفضيل، وتصريف دولارات الحوالات، مقابل الليرة المطلوبة في التبادل المحلي، كان التجار مستنفرين في جمعِ الدولارات المعروضة، على قلتها. فتصريحات جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الخاص بسوريا، حول تطبيق قانون “قيصر – سيزر”، المتعلق بالعقوبات الأمريكية الشاملة المرتقبة على نظام الأسد، حثّت التجار على طلب الدولار، واكتنازه، تحسباً لارتفاع كبير مرتقب له.

جيفري أعلن في نهاية شهر نيسان/أبريل الفائت، أن إدارة بلاده تعتزم تطبيق قانون “سيزر”، في شهر حزيران/يونيو القادم. لكن المسؤول الأمريكي، لم يدلِ بأي تفاصيل حول كيفية تطبيق هذا القانون، ذلك أن بنوده تتيح هامشاً واسعاً للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لتنفيذ القانون بالصورة التي يرتأيها مناسبة. مما يفتح المجال للكثير من المساومات، من تحت الطاولة، مع اللاعبين الإقليميين والدوليين، في سوريا، وفي مقدمتهم، روسيا. لكن التجار وأصحاب الملاءات المالية، يتحسبون عادةً للأسوأ. والأسوأ، هو تطبيق قاسٍ للقانون قد ينعكس في انقطاع شبه كامل للقنوات التي يدخل منها القطع الأجنبي، إلى البلاد.

أزمة مخلوف – الأسد

في خضم هذا الواقع، جاءت أزمة النخبة الحاكمة، التي خرجت للعلن مع فيديوهين لـ رامي مخلوف، أكدا ما كان مجرد تسريبات وتحليلات، عن صراعٍ محتدمٍ ضمن الدائرة الضيقة في رأس هرم النظام. وهو صراع، ألهب المخاوف والتوقعات، بانفجارٍ محتملٍ ضمن الحاضنة الشعبية الموالية للنظام، مما زاد من حراك التجار وكل من يملك سيولة مالية، للبحث عن ملاذات آمنة، في أسرع وقت، كان أبرزها، الدولار والذهب. ولأن ادخار الدولار يتيح تحريك السيولة بشكل أسهل، وُلد طلبٌ هستيري على العملة الخضراء، تحديداً منذ 2 أيار/مايو، أي قبل أسبوعين، وبالتزامن مع تداول الفيديو الأول لـ رامي مخلوف، ومن ثم الثاني.

وفي السياق ذاته، يتحدث البعض عن نظرية، لا نستطيع الجزم بصحتها، حول دور لأذرع رامي مخلوف، المتجذرة في عالم المال والأعمال السوري، في الدفع بالليرة نحو المزيد من الانهيار، كإجراء انتقامي من ابن عمته، أو ربما، كورقة قوة في إطار الصراع بين الطرفين. لكن، رغم وجاهة هذه النظرية، لا توجد أدلة تؤكدها بعد، كما أن خروج الصراع إلى العلن، وحده، كفيلٌ بإشعال حركة مضاربات وطلب حثيث على الدولار. فالثقة باستقرار النظام، انخفضت إلى مستويات متدنية، لدى أصحاب الملاءات المالية، الذين يمتلكون حساسية مرتفعة حيال أية مخاطر أمنية أو سياسية، محتملة.

أزمة الدولار اللبناني

وكأنه “قدر”، أن يتزامن تفاقم الصراع بين مخلوف والأسد، مع تفاقم أزمة القطاع المالي في لبنان، حيث اشتعلت حركة مضاربات على الدولار في الجار اللبناني، تورط فيها مضاربون كبار، أحدهم، محمود مراد، نقيب الصرافين نفسه، الذي اعتقلته الأجهزة الأمنية اللبنانية، بعد دلائل عن تورطه في إلهاب الطلب على الدولار في السوق اللبنانية.

ورغم الطلب الهستيري على الدولار في لبنان، إلا أن مصادر لبنانية متقاطعة، تحدثت عن أن السوق السورية امتصت في الأسبوعين الأخيرين، نسبة ليست بالضئيلة من “الدولار اللبناني”، عبر عمليات التهريب، التي باتت على المكشوف، في معابر شبه علنية، تحظى بحماية من حزب الله، المدعوم إيرانياً، والمُتهم بالمتاجرة في الدولار، هو الآخر، كونها إحدى مصادر الربح السريع، ولو على حساب لقمة اللبنانيين.

ولأن لبنان كان دوماً، مصدراً رئيسياً للقطع الأجنبي القادم إلى سوريا، فإن تفاقم أزمة العملة فيه، ووصولها إلى مراحل متقدمة، وصلت إلى حد اعتقال عشرات الصرافين، جراء تورطهم في المضاربات للحصول على الدولار، انعكس على المشهد في السوق السورية، التي شهدت هي الأخرى، حراكاً هستيرياً بين تجار العملة. والشريحة الأخيرة اتسعت بشكل كبير، حتى أصبح كل من يملك رأس مال متواضع، يريد أن يكون في عدادها، بسوريا. وهو ما أجهز على قدرة الليرة في الصمود.

مضاربات الحيتان

هناك شهود عيان، لا يمكن إحصاؤهم، يتحدثون عن “حيتان” في سوق العملة بسوريا. لكن، بعيداً عن عالم “الحيتان”، كما سبق وأشرنا آنفاً، فإن شرائح واسعة من السوريين باتت من المشاركين في المضاربات في سوقٍ يريد كل من فيه أن “يصعد”، عبر عملية تجارية، بقدر ما هي سهلة، بقدر ما هي خطيرة. فهامش المغامرة فيها مرتفع، والمكسب في معظم الأحيان، يكون للكبار، في عالمها.

وفيما يتحدث صرّافون ومتاجرون صغار، عن ألاعيب “الحيتان”، التي تودي بالليرة إلى المزيد من الانهيار، يساهمون هم أيضاً، عبر آلاف، بل ربما عشرات آلاف، المتاجرين الصغار، في تشكيل قوة مضاربة هائلة، قد يتحكم بها “الحيتان” فيوجهونها الوجهة التي يريدونها، في حين، وقد تخرج عن السيطرة، فيخسر الجميع، في حينٍ آخر.

المصدر : إقتصاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى