تجارب مسرحية في إدلب
ستكون مدينة إدلب خلال شهر حزيران القادم على موعد مع مهرجان الهواة الأول للمسرح، الذي ستقدم فيه ست فرق مسرحية أعمالها بعد صيام عن المهرجانات في المنطقة منذ العام 2005، يوم استضافت المهرجان السينمائي الذي ترعاه وزارة الثقافة. كما سيقوم فريق تحدي بتقديم مسرحية بعنوان «طب القاطع» بالتعاون «الفرقة السورية للفنون المسرحية»، على مسرح المركز الثقافي في إدلب يوم 25 من نيسان الجاري، فضلاً عن العديد من الأعمال المسرحية التي يُحضّر لها خلال الأشهر القادمة.
وقد أدت الظروف القاسية الراهنة إلى طغيان عوالم الحرب على الإنتاج الفني في المنطقة، وإلى تقديم هذا الإنتاج عبر ثيمات ارتبطت بالتراجيديا والسرد الألمي، كما أنها أدت إلى تراجع أنواع كثيرة من الإنتاج الفني، إلا أن المسرح عاد ليرى النور منذ منتصف العام 2018، فاتحاً أسئلة كثيرة عن أفق العمل المسرحي مع غياب الدعم والمؤسسات الإنتاجية والمسارح المؤهلة، إضافة إلى معوقات أخرى تتعلق بتحولات بنية المجتمع والقوى المسيطرة على الأرض.
المسرح في زمن الحرب
يرى المخرج المسرحي إبراهيم سرميني أن المسرح يمكن أن يتطور في زمن الحرب، رغم تشتت الكوادر وما يبدو أنه تضييق للأفق، الضيق أصلاً، جراء ظروف الحرب. وإبراهيم سرميني هو مخرج وممثل، شارك في العديد من المهرجانات المسرحية السورية والدولية، وله أكثر من عشرين عملاً كممثل، وثمانية تجارب إخراجية كان آخرها «سرداب الموت»، كما أنه أحد مؤسسي فرقة بيدق المسرحية في الداخل السوري. وهوي يقول إن المسرح لا يمكنه أن ينفصل عن السياسة، و«لطالما عانى المسرح السوري من الاستبداد، وكان علينا التحايل دائماً لتجنب الاعتقال والرقابة والمحاسبة، من خلال اللجوء إلى الرسائل مبطنة».
يؤكد سرميني على دور المسرح الحيوي في زمن الحرب، مضيفاً أن التفاعل مع الجمهور عبر نافذة تلفزيونية أو وسائل التواصل الاجتماعي غير كاف، لأن المسرح يؤمن «مساحة يتفاعل فيها الممثل والمشاهد، بحيث يستطيع الأخير أن يرى عرق الممثل ويشعر بأنفاسه ونبضه». كما يرى أن المسرح يفيد في كسر صورة يتم تصديرها عن إدلب «بوصفها نقطة سوداء، فيما هي في الواقع مليئة بالأدباء والفنانين والتشكيليين والشعراء والمسرحيين».
ضياء عسود، مخرج وكاتب مسرحي منذ عام 2009، وأحد مؤسسي «الفرقة السورية للفنون المسرحية»، يقول إن «الحاجة إلى المسرح تشتد وقت الحروب بعكس النظرة السائدة، فهو أداة للتأثير في الرأي العام، وإحدى وسائل استعادة الثقة في المجتمع لمواجهة الانهيارات والتمزق في الشخصية السورية»، دون أن ينكر صعوبة المهمة في الظروف الأمنية والعسكرية السائدة.
وليد شلاش هو ممثل مسرحي ومؤسس فرقة مسرح الحارة من مدينة سراقب، يرى من خلال تجربته في العمل المسرحي الجوّال للأطفال في الأحياء والحارات الشعبية وفوق الأنقاض أن «المسرح يقوم بمهمتين رئيسيتين في زمن الحرب؛ توجيه الذائقة الفنية للأطفال والمراهقين في مواجهة دعوات أخرى قد تضر بخيالهم ومستقبلهم، وأداء الدور الأهم بنقل صورة الواقع إلى العالم وتسليط الضوء على ما يحدث من انتهاكات»، مؤكداً أن «دخول المسرح إلى قرى وبلدات في أرياف إدلب، وتفاعل الناس مع هذا النوع من الفنون الذي كانوا يجهلونه في السابق، هو أمر استثنائي لم يكن يحدث سابقاً».
تجارب وفرق مسرحية
يقيس إبراهيم سرميني نجاح التجربة المسرحية بتفاعل الجمهور، فيقول «تُحاكي مسرحية سرداب الموت، التي تم تقديمها في إدلب وإعزاز، حياة المعتقلين في السجون السورية. وقد كان هناك إقبال كبير عليها، حتى أن بعض الناس حضروا العرض مرات عديدة، وأن هناك أشخاصاً حضروا وقوفاً بسبب امتلاء المقاعد». مضيفاً أنه «ليس بالإمكان الانسلاخ عن الظروف المحيطة، ومعظم الأعمال عليها أن ترتبط بما يعيشه الناس».
الممثل المسرحي محمد الزير، وهو أحد المشاركين في «سرداب الموت»، يقول إن التدريب استمر لخمسة أشهر: «كان لا بدّ لنا أن نتجهز نفسياً وبدنياً، لإيصال العمل بالصورة الأكمل»، ويضيف أن «الكاتب مصطفى أبو عبدو استطاع أن يبني النص من خلال حكاياتنا، فجميع الناس عاشوا تجربة الاعتقال سواء بأنفسهم أو من خلال أحد أفراد عائلاتهم، وهذا ما صعّب المهمة؛ أنت تلامس حياة الناس التي يعرفونها وتقدمها على شكل لوحة متكاملة».
من جهته يحدثنا ضياء عسود عن مسرحية «طب القاطع»، وهو مصطلح يعرفه معظم السوريين بسبب ارتباطه بأزمة الكهرباء وانقطاعها خلال سنوات الثورة، ويصفها بأنها «عمل اجتماعي يحاكي حياة الناس، من خلال قضية يعيشها الجميع في المنازل والمخيمات». ويرى العسود «أن اعتماد الشمعة كراكور للمسرحية يمثل حالة من الأمل بالمستقبل، خاصة لارتباط الدراسة على الشمعة في ذاكرة السوريين بالعصامية وتحقيق المستحيل».
وعن مسرح الأطفال والدمى وخيال الظل، يقول وليد شلاش إن مسرحه الذي بدأ بخشبة ودميتين اشتراهما ليجوب بهما أحياء مدينته سراقب، شكَّلَ حالة من التواصل الإيجابي مع الأطفال، ويحكي عن تجربته مع أطفال بلدة كفرنبودة بريف حماة: «كانت دهشة الأطفال لا توصف، سألوني كيف بإمكان دمية أن تنطق، والتفوا حولي. ضحكاتهم كانت الدافع لي على الاستمرار رغم كل شيء».
يقدم شلاش مسرحيات للأطفال بقالب كوميدي، وينصب مسرحه الخشبي على الأنقاض، ليثبت أن هناك حياة، على حدّ قوله، مضيفاً أن هناك قبولاً من الأهالي لما يقدم، وأنهم يأتون بأطفالهم للمشاهدة ويضحكون معهم أيضاً. وهو يعتبر أن رسالته قد وصلت في اللحظة التي رأى فيها الأطفال «يحملون الدمى ويختلقون الحوارات من خلالها».
المسارح والرقابة
تم افتتاح مسرح المركز الثقافي في إدلب منذ خمسة أشهر، وهو المسرح الوحيد المؤهل لعرض الأعمال المسرحية بحسب سرميني، الذي يقول إن منظمة بنفسج قامت بتجهيز المسرح بالبروجكترات الخاصة وستائر الكواليس وستارة العمق، وهو ما يتيح لأي مخرج تنفيذ السينوغرافيا الخاصة بعمله بشكل معقول، وإخراجه بطريقة احترافية إلى حدّ ما. بينما يرى أن باقي المسارح في المنطقة غير مؤهلة، خاصة بالأمور اللوجستية، وهو ما يجعل الفرقة مضطرة للاعتماد على نفسها في تأمين التجهيزات اللازمة، إضافة إلى صغر المساحة والعمق.
من جهته يرى عسود أن التجهيزات المسرحية سيئة جداً في عموم إدلب، لأن المؤثرات الضوئية والتجهيزات الصوتية ليست كافية، إضافة إلى غياب الستائر في مسارح كثيرة، واصفاً تلك المشاكل بـ «الرهيبة»، خاصة أن الإضاءة والصوت تمثل 40% من نجاح أي عمل.
ويتاح تقديم العروض المسرحية وإجراء التدريبات على مسرح إدلب بعد حجز مسبق، وبشكل مجاني، أما في الأرياف فقد لجأت الفرق المسرحية لتقديم عروضها في مسارح متنقلة كما يقول شلاش الذي بنى مسرحاً خشبياً خاصاً به، وقام بشراء بعض اللوجستيات اللازمة لعمله بنفسه. كذلك تُقدّمُ بعض الفرق المسرحية أعمالها في صالات مستأجرة مخصصة للأعراس.
وليس هناك أي جهة مهمتها الرقابة على الأعمال المسرحية في إدلب اليوم، إذ لا يُفترض تقديم العمل المكتوب لأي جهة للموافقة عليه، إلّا أن هناك قيوداً تفرضها طبيعة الجهات المسيطرة في المنطقة، وضوابط عامة حددتها وزارة الثقافة التابعة لحكومة الإنقاذ. ويقول الممثل محمد الزير إنه يتم التغاضي عن بعض هذه الضوابط أو التراجع عنها أحياناً، ذلك أن تلك الضوابط تمنع دخول المرأة إلى المسرح واستخدام الموسيقا بشتى أنواعها والاختلاط بين الرجال والنساء، إلّا أن «الحضور النسائي في العروض المسرحية كان كبيراً، وتم التغاضي عن الجلوس في الأماكن المخصصة للنساء».
ويبقى غياب النساء عن التمثيل في العروض المسرحية أهم الممنوعات المفروضة اليوم، الأمر الذي يرجعه شلاش إلى خوف نساء المنطقة أنفسهن من خوض هذه التجربة، فضلاً عن ما يمكن أن يخلّفه وجود النساء من صدام مع الجهات المسيطرة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى التعرض للمحاسبة وإيقاف العمل.
ورشات تدريبية للهواة
ليس ثمة نقابة للفنانين في المنطقة، ولا معهدٌ للتمثيل، وهو ما يشكل عائقاً أمام مأسسة العمل المسرحي واحترافيته. ويصف ضياء عسود التعامل مع الهواة بأنه أمر بالغ «الصعوبة»، إلا أنه يرى في وجود «الرغبة والموهبة» حلّاً لإكمال مسيرة المسرح ضمن الظروف المتاحة.
وتُقام حالياً ورشة تدريبية تحت مسمى «بصمة مبادر»، تهدف لتنمية قدرات أكثر من عشرين شاباً وتعليمهم فن الإلقاء والحوار. ويقول المخرج المسرحي عبود الشامي، أحد المدربين في الورشة، إن «هناك عدداً من الشباب الموهوبين الذي ينتظرون فرصة صغيرة للدخول في هذا المجال، ونحاول تقديم هذه الفرصة لهم عبر الورشة».
ويرى سرميني، الذي عمل مع منظمة بنفسج على دورة تدريبية منذ ما يقارب الشهرين، إن ما يُقدم لأولئك الشباب من دروس في «اللياقة والنطق المسرحي وتاريخ المسرح وأنواعه والمصطلحات المسرحية والتركيز والثقة بالشريك وتحليل الشخصية المسرحية، سيتجلى في عرض تخريج الدورة الذي سيشارك في مهرجان الهواة كضيف، وسيتم توزيع الجوائز التشجيعية للهواة في التمثيل والإخراج والنص المحلي والجمهور والعرض الأول».
كذلك يقوم بعض المسرحيين السوريين في الخارج بتقديم دورات تدريبية عبر سكايب للهواة في الداخل السوري، ويقول شلاش إنه وفرقته بصدد الحصول على تدريب كهذا من الممثلين فارس الحلو وأمل عمران، لتوجيههم وإعطائهم نصائح أكاديمية.
مسرح بدعم محدود جداً
تبقى قضية الدعم المالي هي الأساس في نجاح واستمرار أي عمل، ويتخوف سرميني من أن غياب الدعم يمكن أن يؤدي إلى «انطفاء هذا الوهج الذي يحدث حالياً»، مؤكداً أن الدعم المطلوب لا يقتصر على المال، «بل ينبغي أن يتعدّى ذلك إلى السماح للفرق المسرحية بعرض أعمالها في مسارح الدول المجاورة، وتبني ذلك من قبل منظمات تتكفل بالتمويل والموافقات اللازمة».
تعتمد الفرق المسرحية اليوم على نفسها للقيام بالعروض المسرحية، ويؤكد الشامي أن «الأمر لن يستمر إن لم يتوفر الدعم، ولا بدّ من التخلص من هذا العائق لإكمال مسيرة العمل». ولا توجد أي مؤسسة معنية بدعم العمل المسرحي في الشمال السوري، بل يقتصر الأمر على دعم محدود من بعض المنظمات، وهو ما أدى إلى توقف بعض الفرق المسرحية وتحولها إلى الأعمال المصورة التلفزيونية أو الوثائقية كما يقول شلاش، مضيفاً أن المجالس المحلية تفرض مذكرات تفاهم قبل المساعدة في تأمين أماكن عرض أو معدات، وتشترط أن يمر الدعم المالي القادم للفرقة عبرها حصراً إذا كانت ستساعد في أي مجال، وهو ما يرفضه بشكل قاطع، قائلاً إن فرقته تعتمد اليوم على مصادر دخل جانبية لا علاقة لها بالمسرح، وعلى بعض التبرعات الشخصية من قبل أصدقاء.
يواجه أصحاب المشاريع المسرحية في إدلب آراء تعتبر أن عملهم ترف زائد عن الحاجة في ظل الظروف الراهنة، وأخرى تشكك بالجدوى من انتشار الفنون وأهميتها مع ما يعانيه الناس من قصف وتهجير ونزوح وخيام، لكن يبقى أن تزايد الأعمال المسرحية والحضور والتفاعل الكبير مع ما يقدم من أعمال رغم كل شيء، علامةٌ على أن كثيرين يرون غير ذلك، ويرون أنه ما زال للعمل الثقافي والفني دوره الحيوي في حفظ الذاكرة وتماسك المجتمع.
مصطفى أبو شمس
2019-04-24
المصدر: الجمهورية al-Jumhuriya-