إعدام مؤجّل: النظام السوري يحتجز قاصرين في السجون لإعدامهم عند بلوغهم الـ18
يكشف هذا التحقيق الاستقصائي لـ”الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج” عن أسلوب عقابي اتّبعته أجهزة الأمن السورية بعد اعتقال الأطفال في سوريا منذ عام 2011، إذ يتم احتجازهم بعد اعتقالهم من دون محاكمة حتى بلوغهم السن القانونية (18 عاماً) ليتم عندها تحويلهم إلى محاكم الميدان العسكرية كي يتم إعدامهم.
طوال سبع سنوات كانت عائلة الطفل سارية الذي اختفى بعد اعتقاله عام 2011 في مدينة حماة، تأمل برؤيته مجدداً، كان سارية بعمر الـ 15 عاماً حين اعتُقل، هو والكثير من القاصرين (تحت سن الثامنة عشرة) الذين احتُجزوا من دون محاكمة، ثم أحيلوا لاحقاً إلى محاكم الميدان العسكري (Military Field Courts)، حيث تم التعامل معهم وفقاً لإجراءات استثنائية مخالفة للمعايير القانونية الدولية والسورية.
والدة الطفل سارية وإخوته يعيشون حالة من الخوف المستمر، بخاصة بعدما أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 3 أيلول/ سبتمبر 2023، مرسوماً ينهي عمل محاكم الميدان العسكري التي كانت نظرت في قضية سارية.
يزداد قلق العائلة من أن يكون مصير ابنها قد أصبح طي النسيان، لا سيما في ظل الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها سوريا على مر السنين، بما في ذلك عمليات الإعدام والإخفاء القسري التي طاولت أعداداً كبيرة من الأطفال والمعتقلين.
يقضي المرسوم الجديد بإنهاء العمل بالمرسوم التشريعي رقم 109 لعام 1968 وتعديلاته، المتضمن إحداث محاكم الميدان العسكري التي كانت تتولى النظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية المرتكبة زمن الحرب، وفقاً لوكالة الأنباء الرسمية (سانا)، على أن تحال جميع القضايا في تلك المحاكم بحالتها الحاضرة إلى القضاء العسكري لإجراء الملاحقة فيها، وفق أحكام قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 61 لعام 1950 وتعديلاته.
المرسوم الملغى منح محاكم الميدان العسكري صلاحيات واسعة، منها جواز عدم تقيدها بالإجراءات المنصوص عليها في التشريعات، فضلاً عن أن أحكامها لا تقبل أياً من طرق الطعن.
اقرأ أيضًا: دعوة من منظمات المجتمع المدني لتحديد مصير المعتقلين
24 طفلاً ضحية إعدامات مؤجّلة
في 24 نيسان/ أبريل 2018، تسلمت باسمة، خالة سارية والموظفة في دائرة النفوس في سوريا، بريداً من وزارة الداخلية السورية ضم قائمة بأسماء المعتقلين الذين تم توثيقهم كمتوفين (بعد إعدامهم أو بسبب التعذيب)، ويظهر بينها اسم سارية الذي حُدِّدت وفاته بتاريخ 14 نيسان 2014.
“لم أتخيل يوماً أن أضطر إلى إخبار عائلتي بأن ابن أختي قد توفي. كنت قد وعدته أن أساعده في الحصول على بطاقته الشخصية من الدائرة، وكنت أترقب عودته. كان أملي دائماً أنه طفل ومن المستحيل أن يؤذوه أو يقتلوه، حتى إن المحامية أكدت لنا ذلك”. وأضافت لفريق التحقيق: “كان سارية طفلاً عندما تم اعتقاله، وقد قالت لي والدته إنني كنت أكذب عليها حين أخبرتها بأن الغالي ما زال حياً. كان الأصح أن أقول لها إن الوحوش لم يتركوه على قيد الحياة”.
ظهر اسم سارية في قائمة حصل عليها فريق التحقيق، وتضم أسماء 25 طفلاً سورياً تم تحويلهم لاحقاً إلى محاكم الميدان العسكري ونالوا أحكاماً بالإعدام، إضافة إلى مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، رغم كونهم قاصرين، حين اعتقالهم.
عبر فريق من الصحافيين الاستقصائيين والباحثين، تمكن فريق التحقيق من تأكيد وفاة 24 شخصاً من أصل 25 وردت أسماؤهم في قائمة تضم حصراً أطفالاً لم يتجاوزوا سن الثامنة عشرة عند اعتقالهم (18 طفلاً من حماة، 3 أطفال من حمص، طفلان من إدلب، وطفل واحد من كل من حلب ودرعا)، بعدما أصدرت محاكم الميدان العسكري أحكاماً بإعدامهم.
حصل فريق التحقيق على قائمة تضمنت المعلومات الشخصية الكاملة لكل طفل، بما في ذلك الاسم الثلاثي، واسم الأم وكنيتها، وتاريخ ومكان الميلاد، وتاريخ إصدار الحكم بالإعدام، والرقم الوطني. فيما لم تحدد القائمة ما إذا كانت الأحكام قد نُفذت أم لا.
يكشف هذا التحقيق الاستقصائي عن أسلوب عقابي اتبعته أجهزة الأمن السورية بعد اعتقال الأطفال. إذ يتم احتجازهم من دون محاكمة حتى بلوغهم السن القانونية (18 عاماً)، ليتم عندها تحويلهم إلى محاكم الميدان العسكري. كما اعتمد النظام السوري أساليب غير قانونية لإصدار أحكام الإعدام بحق المعتقلين الأطفال استناداً إلى قانون مكافحة الإرهاب (رقم 19 لعام 2012).
اعتمد فريق التحقيق على مصادر مفتوحة، مثل منشورات وسائل التواصل الاجتماعي والمجموعات الخاصة بمتابعة شؤون المختفين قسراً في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري، ومقابلات حصرية مع ذوي الضحايا. ومن خلال هذه المصادر، تمكن الفريق من التأكد من أن جميع الأشخاص المدرجين في القائمة كانوا من المختفين قسرياً على يد قوات النظام السوري وأجهزته الأمنية. كما تم التواصل مع ذوي هؤلاء الأشخاص، وأثبتت التحقيقات أن جميع الأسماء في القائمة تعود لأطفال كانوا تحت سن الـ 18 عاماً عند اعتقالهم.
للتحقق من مصير الأشخاص الواردة أسماؤهم في القائمة، حصل فريق التحقيق على بيانات الوفاة من دوائر السجل المدني (النفوس) التابعة لوزارة الداخلية في محافظات سورية عدة. وكشفت هذه البيانات أن 24 شخصاً من القائمة قد توفوا، وتأكدنا أنهم كانوا أطفالاً وقت اعتقالهم.
وبحسب المسؤول القانوني ﻓﻲ وﺣدة اﻟدﻋم في البرنامج السوري للتطوير القانوني (SLDP)، المحامي مهند شراباتي، فإن “إحالة الموقوفين إلى محاكم الميدان العسكري تعكس بوضوح غياب سيادة القانون في سوريا. إذ إن السلطة التنفيذية، الممثلة برئيس النظام، تهيمن بشكل كامل على السلطتين التشريعية والقضائية، ما يؤدي إلى تطبيق قوانين استثنائية ومحاكم لا تلتزم بالمعايير القانونية الدولية، مثل محاكم الميدان العسكرية”.
وكشف لفريق التحقيق مصدر كان قد أمضى ثلاث سنوات من خدمته العسكرية الإلزامية في صفوف الشرطة العسكرية المسؤولة عن مهام نقل المعتقلين وملفاتهم والبريد من “المربع الأمني” في حي كفرسوسة بدمشق إلى سجن صيدنايا وأماكن أخرى، عن أنه عاصر أكثر من ستة آلاف حالة لمعتقلين دون السن القانونية (18 عاماً) صدرت بحقهم أحكام بالإعدام.
ما هي المربعات الأمنيّة ؟
يطلق مصطلح “المربع الأمني” على أماكن محددة في مناطق عدة في سوريا تسيطر عليها قوات النظام السوري. وعادة ما تقع هذه المربعات في قلب المدن، حيث تتركز المباني الحكومية والمقرات الأمنية. وعلى سبيل المثال، هناك المربع الأمني في حي كفرسوسة بدمشق، والذي يضم فروعاً أمنية مثل الفرع 215 سيئ السمعة (تديره المخابرات العسكرية)، ويطلق عليه الكثير من المعتقلين السابقين “فرع الموت”، و”الفرع 227″، إضافة إلى إدارة السجلات العسكرية. كما يوجد مربع أمني آخر في حي الروضة وسط دمشق، حيث تحيط الحواجز العسكرية والمفارز الأمنية بمبنى إدارة الأمن القومي السوري.
وأوضح المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، أنه “بين العام 2014 وحتى نهاية العام 2017، وهي الفترة التي خدمت خلالها في الشرطة العسكرية بدمشق، كانت من ضمن مهامنا كشرطة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع نقل المعتقلين وملفاتهم والبريد من المربع الأمني في دمشق إلى سجن صيدنايا ومحكمة الديماس [واحدة من محاكم الميدان العسكري]، وكذلك من صيدنايا إلى الديماس ذهاباً وإياباً. في هذه الفترة، كانت حالات الإعدام في أعلى مستوياتها تقريباً. وخلالها، شاهدت ونقلت أكثر من 6,000 معتقل تم جلبهم إلى المربع الأمني في دمشق، وهم في سن 15 إلى 17 عاماً”.
“خلال فترة وجودهم في هذا المربع أصبحوا في سن 18 و19 عاماً. بعدها حكم عليهم بالإعدام من قبل محكمة الميدان”، كما أضاف المصدر ذاته. و”هذا العدد يمثل فقط ما شاهدته خلال فترة عملي، دون احتساب الأفراد الآخرين من الشرطة العسكرية المكلفين بأعمال مماثلة”.
اعتقال الأطفال والحكم عليهم لاحقاً بالإعدام كانا خلال فترة ترؤس القاضي محمد كنجو حسن محكمة الميدان العسكري، والتي امتدت من كانون الأول/ ديسمبر 2013 وحتى كانون الثاني/ يناير 2023.
من هو اللواء محمد كنجو حسن ؟
من مواليد مدينة طرطوس في 1 كانون الثاني/ يناير 1959. وهو من عائلة يغلب على أفرادها الانتماء إلى الجيش والأجهزة الأمنية.
حصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، ثم تطوع في صفوف الجيش والقوات المسلحة السورية. وقد تدرج في المناصب داخل القضاء العسكري التابع لوزارة الدفاع إلى أن أصبح نائباً عسكرياً عاماً في محكمة الميدان العسكري في دمشق برتبة عميد مع بداية الاحتجاجات الشعبية ضد النظام السوري في آذار/ مارس 2011.
في كانون الأول/ ديسمبر 2013، تمت ترقيته إلى رتبة لواء، وعُيّن رئيساً لمحكمة الميدان العسكرية في دمشق، ثم رئيساً لإدارة القضاء العسكري. وقد بقي في هذا المنصب حتى تقاعده في 1 كانون الثاني/ يناير 2023.
حسن تتهمه عائلات ضحايا محكمة الميدان ومنظمات حقوقية بالتورط في إصدار وتنفيذ آلاف أحكام الإعدام خلال فترة رئاسته للمحكمة. ويُعتقد أنه لعب دوراً أساسياً في قمع الاحتجاجات المناهضة للنظام وتوقيع أحكام إعدام ضد منشقين عن الجيش.في كانون الأول 2023، أُدرج اسمه على قائمة العقوبات الصادرة عن وزارة الخارجية البريطانية بسبب تورطه في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أثناء خدمته.
قتل بالقانون!
مأساة سارية تكررت، وإن بشكل آخر، مع خالد الذي اعتقل في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، وكان يبلغ حينها 16 عاماً، من منزله بمدينة حماة، خلال مداهمة نفذتها قوات النظام السوري بمرافقة عناصر من فرع الأمن العسكري. كان سبب الاعتقال تشابه الأسماء، بحسب ما أوضح والد الضحية.
يحمل خالد نفس اسم أحد أبناء عمومته الذي كان مجنداً في الجيش السوري وانشق عنه، وأصبح لاحقاً قائداً في فصيل معارض مسلح. وعلى الرغم من الفروقات الواضحة في بطاقة الهوية، تم اعتقال الفتى القاصر ونقله إلى فرع الأمن العسكري في حماة، حيث احتُجز هناك لمدة شهر ونصف الشهر.
بعد هذه الفترة، تم نقله إلى الفرع 215 أمن عسكري في دمشق، والمعروف بظروفه القاسية وتعذيبه الممنهج للمعتقلين، بحسب منظمات حقوقية. هناك، أمضى خالد نحو عام ونصف العام في احتجاز تعسفي من دون توجيه أي تهم رسمية ضده. لاحقاً، تم تحويله إلى سجن صيدنايا العسكري، أحد أخطر السجون في سوريا، حيث يواجه المعتقلون أشكالاً مروعة من التعذيب والإهمال الطبي.
في صيدنايا، أصدر محكمة الميدان العسكرية في الديماس حكماً بالإعدام بحقه، لكن الحكم لم ينفذ لأن خالد توفي قبل ذلك نتيجة التعذيب وإصابته بمرض تنفسي حاد ناجم عن ظروف الاحتجاز اللاإنسانية، ووفقاً لشهادات معتقلين أفرج عنهم وشاهدوا خالد خلال فترة احتجازه، كان الأخير يعاني من آثار التعذيب حتى لحظاته الأخيرة.
وصف البرنامج السوري للتطوير القانوني محاكم الميدان العسكري بأنها “تتجاوز المعايير الدولية للمحاكمات العادلة. فهي لا تلتزم بمبادئ الشفافية والاستقلالية، وتصدر أحكامها من دون مراعاة لمبادئ المحاكمة العادلة المنصوص عليها في القوانين الدولية مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ما يساهم في تقويض حقوق المتهمين”.
يتم تنفيذ عمليات الإعدام استناداً الى أحكام قانون العقوبات السوري العام (رقم 48 لعام 1949)، وعملاً بقانون أصول المحاكمات الجزائية السوري (رقم 112 لعام 1950)، وكذلك قانون مكافحة الإرهاب (رقم 19 لعام 2012).
لكن لا يوجد أي أساس قانوني لاحتجاز الأطفال في السجون السورية من دون محاكمة حتى بلوغهم السن القانونية لتحويلهم إلى محكمة الميدان العسكري وتنفيذ أحكام الإعدام بحقهم، كما شدد المحامي مهند شراباتي، إذ “يحظر القانون الدولي فرض عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة على الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن الـ18 سنة. والقانون السوري يلتزم بهذا الحظر، ولا ينص على عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة في الجرائم التي يرتكبها الأحداث”.
الأمر ذاته أكدته المحامية سناء (اسم مستعار) التي بذلت جهوداً كبيرة من دون الوصول الى نتيجة خلال السنوات السبع الماضية، في محاولة تتبع قضية الطفل سارية بشكل غير رسمي؛ إذ يتردد المحامون في العمل على مثل قضايا كهذه بسبب الخوف من الأجهزة الأمنية.
تقول سناء لفريق التحقيق: “اعتقل سارية حين كان دون الثامنة عشرة، ما يفرض تحويله الى محاكم الأحداث؛ وهي محاكم مدنية لا عسكرية”. وتضيف: “في حال سلمنا بصحة محاضر التحقيق، ولائحة الادعاء والتهم التي لا يعرفها أحد، وفي حال صدر بحقه حكم إعدام، فإنه من المفروض أن يخفف من النيابة العسكرية وفقاً لأحكام قانون الأحداث الجانحين رقم 18 لعام 1974 وتعديلاته، لأنه كان حدثاً حين ارتكاب الجرم وفق لائحة اتهامه التي اعتُقل على أساسها”.
كذلك، فإن التعميمات الأمنية ذاتها، كما أضافت المحامية: “تمنع الاحتفاظ بالأشخاص داخل الأفرع الأمنية لأكثر من 40 يوماً من دون سبب، فكيف أمضى سارية كل هذه الأعوام وكيف تم إعدامه بناء على لائحة اتهام لأفعال ارتكبها حين كان في الخامسة عشرة من عمره؟ وما هي هذه التهم التي تستوجب الإعدام؟ لقد قتلوا سارية خارج نطاق القانون، ولكن بالقانون”.
وقالت “الهيئة السورية للمعتقلين” إن “المحاكم الميدانية كانت استثنائية حيث لا يوجد بها أي ضمانات دستورية ولا يحق للمتهم الماثل أمامها تقديم أي دفوع أو توكيل محام أو مراجعة أي قرار أو حكم يصدر عنها إضافة إلى سريتها”.
واعتبرت الهيئة أن هذه المحاكمات كانت “إحدى الأدوات التي مارس بها النظام السوري القتل منذ بداية حكمه واستخدمها لإبادة أي صوت معارض له، كما كانت إحدى آليات الترهيب التي نشطت منذ بداية الثورة والتي ارتبط اسمها بسجن صيدنايا العسكري سيئ الصيت”.
ووثق تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، صادر في 12 أيلول/ سبتمبر الماضي، إصدار المحاكم الميدانية 14,843 حكم إعدام، منذ آذار/ مارس 2011 وحتى آب/ أغسطس 2023. ومن بين المحكومين 114 طفلاً و26 سيدة. وقد نفذت عقوبة الإعدام بحق 7,872 شخصاً، من بينهم 2,021 شخصاً من العسكريين، ولم تُسلم جثامينهم لذويهم، ولم يتم إخطارهم بإعدامهم بشكل رسمي.
55 عاماً من المحاكمات الصوريّة
تعود جذور محاكم الميدان العسكرية في سوريا إلى الفترة التي أعقبت حرب حزيران/ يونيو 1967 ضد إسرائيل، وتحديداً إلى العام 1968 حين أُنشئت باعتبارها متخصصة بالنظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية والمحالة إليها بقرار من القائد العام للجيش والقوات المسلحة (رئيس الجمهورية) والمرتكبة زمن الحرب والعمليات الحربية.
وتشكل محكمة الميدان بقرار من وزير الدفاع، وتتألف من رئيس وعضوين عسكريين، بحيث لا تقل رتبة الرئيس فيها عن رائد، فيما لا تقل رتبة كل من العضوين عن نقيب.
وقد منح المرسوم 109 لعام 1968 هذه المحاكم صلاحيات واسعة، بما في ذلك عدم التقيد بالإجراءات القانونية التقليدية التي تضمن عدالة المحاكمة، وعدم قبول أحكامها للطعن.
ومنذ العام 1980، في عهد حافظ الأسد، والد رئيس النظام الحالي، توسع نطاق صلاحيات هذه المحاكم ليشمل المدنيين، ما زاد بالتالي من عدد ضحاياها. إذ لعبت على مدار أكثر من 55 عاماً، دوراً محورياً في إصدار أحكام الإعدام والإخفاء القسري، لا سيما عقب اندلاع الاحتجاجات الشعبية في 2011، بحيث صارت هذه المحاكم “رمزاً للقمع والخوف، تركت وراءها أرشيفاً مليئاً بالجرائم والانتهاكات”، بحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية.
وقالت المنظمة إن المحاكم الميدانية تعمل “خارج نطاق قواعد وأصول النظام القانوني السوري”. ونقلت عن قاضِ سابق فيها قوله: “يسأل القاضي عن اسم المحتجز، وعما إذا كان قد ارتكب الجريمة أم لا. وستتم إدانة المحتجز بصرف النظر عن إجابته”.
وأضافت المنظمة: “يخضع المحتجزون قبل إعدامهم لإجراءات قضائية صورية لا تستغرق أكثر من دقيقة واحدة أو اثنتين… وتتصف هذه الإجراءات بأنها من الإيجاز والتعسف بحيث يستحيل معهما أن يتم اعتبارها إجراءات قضائية معتادة”، كما وُصفت الإجراءات بـ”مهزلة… تنتهي بإعدام المحتجزين شنقاً”.
وبحسب مصدر عمل في القضاء العسكري، فإن محاكم الميدان العسكري تصدر أحكاماً جماعية وغيابية من دون الاعتماد على لوائح تهم أو قراءة محاضر التحقيق. إذ تستند الأحكام إلى الضبوط المنظمة من رجال الأمن والاعترافات المنتزعة تحت التعذيب في الأفرع الأمنية أو توصيات اللجنة الخماسية. ومن ثم، يُساق المعتقلون من المربع الأمني في دمشق (منطقة كفرسوسة) باتجاه الإيداع، بينما تسبقهم ملفاتهم إلى محاكم الميدان العسكري.
كذلك، تحرم محاكم الميدان العسكري المتهمين، وفق المصدر ذاته، من الاستعانة بمحام. ولا يمنح المحامون أي حق بالاطلاع على ملفات الدعاوى.
ولم ترد وزارتا العدل والداخلية في سوريا على طلبات فريق التحقيق التعليق حول محاكم الميدان ومصير المعتقلين السابقين والحاليين.
وبحسب خبراء قانونيين، تواصل فريق التحقيق معهم، فإنه بعد إلغاء المحاكم الميدانية بدأت الأجهزة الامنية بإحالة الموقوفين لديها إلى محاكم القضاء العسكري ومحكمة قضايا الإرهاب، أو القضاء المدني، بحيث يبقى تقدير “الجريمة وتوصيفها” خاضعاً للأجهزة الأمنية، وسط غياب الاستقلالية القضائية، سواء للقضاء العسكري أم المدني.
الناجي 25 يخبر القصة
فريق التحقيق تمكن من الوصول إلى الناجي الوحيد الذي يظهر في القائمة الحصرية، وهو يحمل الرقم 25.
الناجي، مصطفى كامل الخطيب، الذي يبلغ اليوم 28 عاماً ويعيش في محافظة إدلب الخارجة عن سيطرة قوات النظام، وافق على مقابلة فريق التحقيق ومشاركة الوثائق التي يمتلكها، ليسلط الضوء على كيفية تعامل الأجهزة الأمنية السورية مع المعتقلين، بخاصة الأطفال منهم، وتحويلهم إلى محاكم الميدان العسكري.
في الوثائق التي قدمها الخطيب، يظهر حكم بالإعدام صدر بحقه، وتخفيف هذا الحكم إلى السجن 12 سنة مع الأشغال الشاقة، وذلك بعد دفع عائلته مبلغاً من المال. كما وثق الخطيب شهادته بالصوت والصورة، مستعرضاً الظروف التي مر بها.
يوضح الخطيب، أنه اعتقل وهو طالب في الصف التاسع من العام 2013 من قبل فرع فلسطين، حيث تعرض لأشكال متعددة من التعذيب، مضيفاً: “تعرضت لجميع أنواع التعذيب في فرع فلسطين، الجسدي والجنسي…”.
موضحاً أنّ المعتقلين كانوا مجرد أرقام بلا أسماء. كان رقمه 95 في زنزانته، بينما كان والده معتقلاً معه برقم 25 في زنزانة أخرى، ما يعكس كيف تعاملت الفروع الأمنية مع المعتقلين من خلال نزع الطابع الإنساني عنهم.
أمضى الطفل سنة وشهراً في فرع فلسطين قبل أن يُنقل إلى فرع آخر. ويوضح أن السلطات الأمنية غيرت تاريخ اعتقاله لتفادي تسجيله كقاصر (طفل)، قائلاً: “قبل تحويلي للفرع 248، بصّموني على أوراق لا أعرف محتواها… وتم تغيير تاريخ اعتقالي ليظهر أنني اعتقلت العام 2014 بدلاً من 2013”.
ويضيف: “خلال تنقلي بين الأفرع الأمنية، بما في ذلك فرع فلسطين، وفرع 248، وسجن صيدنايا العسكري، رأيت الكثير من المعتقلين من فئة الأحداث، أي أطفال تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً. كانوا معي وكانوا جميعاً محكومين بالإعدام.”
الدقائق الأخيرة قبل عمليات الإعدام
في شهادة حول عمليات الإعدام الميدانية في سوريا، نقلت منظمات حقوقية عن حارس سابق في سجن صيدنايا قوله إنه تم إعدام ما يصل إلى 13,000 شخص شنقاً في سجن صيدنايا بين سبتمبر/ أيلول 2011 وديسمبر/ كانون الأول 2015. قبل صدور الحكم بالإعدام، يواجه الضحايا ما تسميه السلطات السورية ‘محاكمة’ أمام محكمة الميدان العسكرية. في الواقع، لا تتجاوز هذه المحاكمة مدة دقيقة أو دقيقتين، تُعقد في مكتب أمام ضابط عسكري، حيث يتم تسجيل اسم المعتقل في سجل الموت.
في يوم الإعدام، الذي يسميه حراس السجن بـ”الحفلة”، يتم جمع أولئك الذين سيُعدمون من زنازينهم في فترة ما بعد الظهر. يتم إخبار المعتقلين بأنهم سينقلون إلى أحد السجون المدنية، والتي يعتقد الكثيرون أن ظروفها أفضل. لكن بدلاً من ذلك، يتم اقتيادهم إلى زنزانة في قبو المبنى، حيث يتعرضون للضرب المبرح، وبعدها يتم نقلهم إلى غرفة الإعدام.
في غرفة الإعدام بسجن صيدنايا تصطف حبال المشانق على الجدار. عند دخول الغرفة، يتم تعصيب أعين الضحايا، فلا يدركون أنهم على وشك الإعدام. يُطلب منهم وضع بصماتهم على بيانات توثّق وفاتهم. بعد ذلك، يتم اقتيادهم، وأعينهم ما زالت معصوبة، إلى منصات خرسانية، حيث يُشنقون. لا يعلمون كيف أو متى سيتم تنفيذ الإعدام حتى يتم وضع الحبال حول أعناقهم. وقد أفاد بعض المعتقلين المحتجزين في الطوابق العليا من مبنى غرفة الإعدام أنهم كانوا يسمعون أحياناً أصوات عمليات الشنق.
نحو الساعة الثالثة صباحاً، يصل أعضاء لجنة الإعدام من خارج سجن صيدنايا لحضور عمليات الإعدام، ومن بين أعضاء لجنة الإعدام الذين يحضرون بانتظام الإعدامات كل من مدير سجن صيدنايا، المدعي العسكري في محكمة الميدان العسكري، ممثل عن أجهزة المخابرات – عادةً من المخابرات العسكرية، قائد اللواء في الجبهة الجنوبية، ضابط من الخدمات الطبية العسكرية في مستشفى تشرين، والطبيب الرئيسي في سجن صيدنايا. عادةً ما يرافق كل عضو من أعضاء اللجنة مساعد أو اثنان أو حراس شخصيون.
حتى اليوم، لا يزال يتم نقل المعتقلين إلى سجن صيدنايا، وتستمر “المحاكمات” في محكمة الميدان العسكري في القابون. لذلك، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن عمليات الإعدام قد توقفت.
وقال المحامي محمد عثمان: “احتجاز القاصرين في السجون السورية وتحويلهم إلى محاكم الميدان العسكري، حيث يُحكم عليهم بالإعدام بعد بلوغهم، يكشفان عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي والسوري. هذه الممارسات تعكس غياب العدالة والمحاسبة في النظام القضائي السوري، ما يستدعي تحركاً دولياً عاجلاً لمحاسبة المسؤولين وضمان حماية حقوق الأطفال”، لافتاً إلى أنه “تبقى قصص هؤلاء القاصرين شاهداً مؤلماً على واقع قاتم يتطلب جهوداً حثيثة لتحقيق العدالة وإنهاء هذه الانتهاكات المستمرة”.
اليوم، يستذكر الخطيب تفاصيل الحكم عليه بالإعدام رغم كونه طفلاً عند اعتقاله ونجاته وفراره الى شمال سوريا، إضافة إلى ذكر بعض أسماء الأطفال الآخرين الذين اعتقلوا معه وتم إعدامهم في سجن صيدنايا، مثل قدور صبحي الحسن وأنور القطرون.
“بعض المعتقلين كانوا محظوظين”، كما قال، “إذ استطاعوا الخروج بعد دفع مبالغ مالية كبيرة، من بينهم والدي الذي دفع نحو 45 ألف دولار (أكثر من 650 مليون ليرة سورية) للإفراج عني، فيما ينتظر أطفال آخرون إعداماً مؤجلاً”.
أنجزت هذا التحقيق الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية، سراج.
تحرير: منار الرشواني.
تلتزم “سراج” بعدم نشر لوائح الأسماء والمعلومات الخاصة بالمصادر بطلب منهم بسبب الخوف من إجراءات انتقامية في حال النشر.
قدّم التحليل القانوني للتحقيق البرنامج السوري للتطوير القانوني (SLDP) في لندن-المملكة المتحدة.