المرأة ولغة اللجوء
تعتبر اللغة إحدى المكونات الثقافية الأبرز للمجتمعات البشرية، وهي مرآة عاكسة لفكر المجتمعات وتراتبية القوى فيها. هناك جدل واسع بين المفكرين حول أسبقية الفكر على اللغة وعجز اللغة عن التعبير المطلق عن الفكر. لذلك أعتقد أن مناقشة موضوع اللغة لا يكتمل دونما استحضار الفكر الفردي والإجماع المجتمعي. فمفردات اللغة المستعملة تتحدد وفق تصور المرأة لذاتها وتصور المجتمع للدور المرسوم لها. فمن الصعب تشريح اللغة على كافة المستويات، فيما لو تحدثنا فقط عن مفردات اللغة بحد ذاتها. فالقضية هنا ليست بصدد الحديث عن التأنيث أو التذكير في مفردات اللغة بل عن ضرورة الغوص فيما هو أبعد من ذلك ألا هو التعايش بين الفكر واللغة. فاستعمال اللغة ومفرداتها هو أحد الأدوات في التعبير عن الذات التي تحدد العلاقات الاجتماعية المتشابكة ورؤية المرأة لذاتها وانعكاس صورتها في مرآة المجتمع. فما اللغة إلا أداة لتعزيز الفكر.
السؤال المطروح هنا: هل يختلف هذا التعايش بين الفكر واللغة عندما يقوم الشخص بتعلم لغة ثانية؟ خاصة عندما يكون هذا المتعلم شخص بالغ يرزح تحت ظرف اللجوء في بلاد العالم المتقدم؟ وهل هذه التجربة متشابهة عند الرجل والمرأة في مرحلة خلق الهويات الجديدة بتعلم لغة ثانية؟
إن اتقان لغة بلد اللجوء حاجة أساسية لا مفر منها للقدرة على النجاة والتأقلم في مجتمعات جديدة، وهي مهمة غاية في الصعوبة خاصة اللاجئين السوريين، فقد حُرم غالبيتهم بسبب النظام التعليمي السوري من اتقان لغة ثانية، مما ضاعف من معاناتهم. واعتقد أن هذه سياسة تعليم مقصودة بكل تأكيد، بغاية تكبيل عقول السوريين للسيطرة عليهم حتى ولو خرجوا من حدود السيطرة المكانية.
تختلف دراسة اللغة عن دراسة أي مواد دراسية أخرى فموضوع اللغة ينضوي على الاطلاع على ثقافة جديدة1 ، مما يشجع الفكر على بدء عملية المقارنة التي تفتح الباب لاستحضار أسئلة لم تكن مألوفة في ظل التعود الذي غالباً ما يتسبب في تعطيل الفكر النقدي. وهذا ينطبق على مجتمعات اللجوء ككل لكنني أعتقد أن أثره أعمق عند المرأة اللاجئة مما هو عند الرجل بحكم اختلاف مستوى القوة الاجتماعية لكليهما. فللرجل مكانة اجتماعية ودور في بلده الأصلي يُشعره أصلاً بالتفوق على المرأة من حيث تراتبية القوى في المجتمع، بينما نجد أن المرأة لا تمتلك هذا الحس بالتفوق الاجتماعي مما يجعلها ترى ما تكتشفه في سياق تعلم اللغة الجديدة بعينٍ مختلفةٍ عن عين الرجل. فاللجوء في دول العالم المتقدم يخفف من تراتبية تلك القوى ليجد اللاجئ نفسه في أغلب الأحيان، سواء أكان رجلاً أم امرأة، في أدنى درجات سلم القوى. فعندما يتناول تعليم اللغة مثلاً مواضيع إبداء الرأي والتعبير عن الذات، نجد المرأة مهتمة ومتحمسة أكثر من الرجل في المشاركة مما يساعدها على التعلم بشكل أسرع وذلك لأنها تمارس، من خلال هذا السياق الجديد في استعمال اللغة، قوة لم تعهدها من قبل. بينما لا نجد ذات الدافع عند الرجل الذي اعتاد أن يمارس هذه القدرة التعبيرية بلغته الأم مما يولد عنده حنيناً لتلك اللغة التي كانت تعبر عن مكنوناته ويمارس من خلالها سلطته بكل سهولة. فعالم استخدام اللغة للتعبير عن الذات عالم جديد على المرأة اللاجئة لم تعهده من قبل، فهو يشعرها بأنها فاعلة وقادرة على التعبير عن رأيها وذاتها وهذا ما يجعلها، في رأيي، مجدة أكثر في تعلم اللغة كون دوافع تعلم اللغة عندها ترتبط باكتشاف الذات.
يرى الباحث غارندر أنّ رؤية الشخص لذاته وكيفية تعريفه للنجاح يؤثر على قدرته على التعلم، أي أنّ الموروث الثقافي يؤثر على تعلم اللغة الثانية2. فتعلم اللغة يتمحور حول هوية المتعلم وكيف يرى نفسه. فغالباً ما كانت المرأة ترى نفسها كما يراها مجتمعها. ففي سورية مثلاً يجب أن تدرس المرأة بشكل عام في مجالاتٍ محددةٍ وتعمل في مجالاتٍ أكثر تحديداً، حتى أن الموضوعات التي تتحدث فيها تختلف عما يتحدث به الرجل وذلك يتبع بالضرورة للدور الذي حدده لها المجتمع سلفاً. لقد خلق اللجوء هويات مختلفة، فاختل ميزان القوى القديم الذي حرم المرأة من شغلِ مركزٍ مساويٍ للرجل، وهذا ما أثر على طريقة تعلم اللغة عند المرأة التي بدأت بتشكيل هوية جديدة لذاتها. في دراسة عن النساء المهاجرات وتعلم اللغة، وجدت الباحثة بوني نورت بيرس أن النساء عندما يتعلمن لغة ثانية يخلقن لأنفسهن هوية اجتماعية جديدة. فعندما يتحدثن باللغة الثانية، فإنهن لا يقمن فقط بتبادل المعلومات مع المتحدثين المستهدفين، ولكن يقمن باستمرار بتنظيم وإعادة تنظيم إحساسهن بذاتهن وارتباطهن بالمجتمع3 . يتم إنتاج الهوية الاجتماعية وإعادة إنتاجها في التفاعل الاجتماعي اليومي، فالدوافع الذاتية والثقة بالنفس والانفتاح على الآخر ليست صفات شخصية ثابتة، ولكنها متغيرة وفقا للعلاقات الاجتماعية وتوازن القوى في المجتمع.
2019-03-29
المصدر: شبكة الصحفيات السوريات Syrian Female Journalists Network