“العدالة والعمل”.. مبادرة لإعادة دمج الناجيات شمال حلب
بفعل الانتهاكات المتراكمة لحقوق الإنسان في سوريا، تركت مؤسسات الدولة مسؤوليتها في توعية المجتمع تجاه حقوقه، ولم يعد لمفاهيم المواطنة من دور للإرشاد في كيفية تعامل أبناء المجتمع الواحد مع المشكلات التي يواجهونها فيما بينهم، وطغت مكانها مفاهيم أخرى مطلقة، مثل الانقسامات السياسية والطائفية ذات الرؤية الأحادية للمجتمع والثقافة، التي تعتبر كل من خالفها أو اختلف معها، ولو كان من داخلها، خطرًا وجوديًا يجب التخلص منه.
خلال العقد الأخير، أخذت عدة فئات من المجتمع السوري نصيبها من الانتهاكات التي عانت منها، ولا تزال، محاولة إعادة صياغة الأمان الخاص بها، والخروج من الاختناقات التي تعيشها في الحاضر، وصقل مستقبلها.
من ضمن جملة الانتهاكات، العمليات الحاطّة من الكرامة الإنسانية، وتوليد الألم داخل الفرد عن طريق تعذيبه داخل مراكز الاعتقال، والحجز في المنفردة، وقلة الطعام، والاغتصاب، والتحرش الجنسي بحق المعتقلات السوريات.
وتواجه الناجيات من الاعتقال أو الاختطاف أو الإخفاء القسري تعاملًا سلبيًا بعد عودتهن إلى مجتمعاتهن، بسبب الوصمة الاجتماعية التي اعتادت التعاطي مع كثير من الناجيات على أنهن ضحايا اغتصاب وعنف جنسي، حتى وإن لم يكن كذلك.
وتعتبر حالة التبرير لنفي الاتهام السابق من قبل الناجيات أنفسهن، انتهاكًا آخر لهن، بسبب المفاهيم المجتمعية السائدة تجاه الناجيات من العنف الجنسي.
يتسبب الاعتقال في بعض هذه الحالات بعزل الناجية من الاعتقال عن مجتمعها، الذي يفترض أنه يمتلك الحق في الدفاع عن قضية المعتقلين.
تعزيز المواطنة الخاصة بالناجيات
التمييز ضد الناجيات من السجون يفرز أهمية العمل على مفهوم “المواطنة الكاملة” بالنسبة إلى النساء، الذي يعني قدرتهن على ممارسة حقوقهن بالكامل، والحصول على المساواة في المعاملة والاحترام والسلامة النفسية والكرامة، وتمتعهن بجميع الحقوق كمواطنات، والمساواة التامة بين النساء والرجال، حتى وإن كانت هذه الحقوق متاحة بهامش ضيّق في جميع المناطق السورية.
وعندما لا تتحكم الناجيات بحياتهن بعد الخروج من الاعتقال، فإن ذلك يحرمهن بالدرجة الأولى من تحمل مسؤولية تحديد مصيرهن بعد التجارب القاسية التي عشنها داخل السجن.
وأشرفت ودعمت منظمة “اليوم التالي” بالشراكة مع منظمة “حررني” تنفيذ مبادرة “العدالة والعمل“، في شمالي مدينة حلب، التي انتهت فعالياتها خلال كانون الثاني الحالي، وتهدف إلى تعزيز أسس العدالة الاجتماعية التي تركز على المساواة بين الجنسين.
توصف منظمة “اليوم التالي” بأنها منظمة مدنية غير ربحية، مهمتها الأساسية تقوية المجتمع المدني السوري والتأثير في صنّاع القرار، بما يخدم الانتقال الديمقراطي والعدالة في سوريا، وتطوير وتعزيز هوية وطنية جديدة.
كما توصف منظمة “حررني” بأنها منظمة مدنية إنسانية غير ربحية، لا تحمل أي توجه سياسي، ولا تتبع لأي جهة عسكرية، وهي تهدف لمساعدة ودعم المعتقلات الناجيات من سجون وفظائع النظام السوري اللاتي وجدن أنفسهن وأطفالهن بلا معيل، بسبب قتل عوائلهن خلال فترة وجودهن في المعتقل، أو بسبب نبذ العائلة والمجتمع لهن ولأطفالهن، بعد خروجهن من المعتقل.
وإذا كان الشخص السياسي يمثّل شريحة معيّنة من مجتمعه، ويسعى إلى تحقيق تغيير في النظام العام لمصلحة ما يراه أفضل لعموم المجتمع والدولة، فإن السجن يعمل على عزل هذا التمثيل، ليأتي المجتمع فيتعامل مع السجن كحالة فردية، عازلًا عنه قضيته التي اعتقل بسببها، والتي هي قضية عامة.
وينتج هذا العزل ضغوطًا فردية لأسباب عدة، ويؤدي إلى التعامل مع السجين السياسي وكأنه معتقل سياسي يمثّل ذاته فقط، وقد تظهر أشكال هذا العزل بأقصى حالاته، من خلال ارتكاب “جرائم الشرف” ضد النساء المعتقلات، أو لوم السجين السياسي على مغامرته ضد السلطة من قبل محيطه الاجتماعي.
وبحسب دراسة لمنظمة “النساء الآن”، فإن أخطر ما تواجهه الناجيات من الاعتقال هو الرد العنيف من قبل الأشخاص المقربين والمجتمع المحيط حول فكرة الاعتقال، فكانت “وصمة العار” تلاحق الناجيات في أغلب الحالات، إلا في بعض الاستثناءات.
وفي بعض الحالات، رُفضت الناجيات من الاعتقال من قبل العائلة بشكل مطلق، أو وُضعن بعد الاعتقال في حبس قسري بالمنزل، أو زُوّجن لغسل العار، أو أُعلنت وفاتهن وهن على قيد الحياة.
العدالة أداة لإعادة الإدماج
اعتبر منسق مشروع “الإصلاح القانوني” في منظمة “اليوم التالي”، عباس الموسى، أن العدالة هي إحدى الركائز الأساسية لتغيير جذري وحقيقي داخل المجتمع السوري، كونها إحدى أدوات الاستجابة الفاعلة والمراعية للنوع الاجتماعي لمرحلة انتقالية، تعالَج فيها مشكلات عدم وصول النساء إلى حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية، وصعوبة إدماجهن في الحياة السياسية والاقتصادية، كجزء من الأجندة الوطنية الشاملة التي تركّز على عدم التمييز.
تهدف المبادرة بشكل أساسي، بحسب ما قاله الموسى لعنب بلدي، إلى رفع المستوى المعرفي للناجيات خصوصًا، والنساء عمومًا، لتوفير فرص الارتقاء المهني لهن، من خلال امتلاك الأدوات لتأسيس مشروع مستقل، أو الحصول على عمل ضمن المحيط المجتمعي أو عن بُعد، والعمل على تثقيف النساء من خلال الحوار لدحض القيم والأدوار التمييزية التي تمنع الناجيات من المشاركة في الحياة الاقتصادية.
“تهدف منظمة (حررني) إلى إعادة تأهيل الناجيات من الاعتقال، لتتوسع فيما بعد وتشمل كل النساء الناجيات من العنف الجسدي والنفسي وأيضًا الجنسي، ودعمت (اليوم التالي) هذه المبادرة ماديًا ولوجستيًا”، أوضح الموسى.
استمرت المبادرة لمدة شهرين، جرى خلالها تدريب ودعم 55 سيدة في عدة مجالات مهنية، منها التدريب على وضع مقترحات المشاريع، وطرق إعداد دراسة الجدوى الاقتصادية، وإعداد السيرة الذاتية، بالإضافة إلى أهم المهارات اللازمة لتجاوز مقابلة عمل، إضافة إلى تدريبات فيزيائية حول مبادئ المحاسبة الأولية.
مشكلات متراكمة على عاتق النساء
النساء الناجيات من الاعتقال والمعنفات، هن من يدفعن الثمن الأكبر في ظل الطبيعة المركبة والشائكة للوضع في سوريا، وفق ما يراه الموسى، فـ”حملات النزوح والتهجير القسري أدت إلى وجود أعداد هائلة من النساء في المخيمات ومراكز الإيواء والتجمعات السكنية يعانين من مشكلات التكيّف وتُقيّد حركتهن، ما يؤدي إلى مشكلات اجتماعية كبيرة”.
كما أن “البطالة الطويلة الأمد بسبب فقدان فرص العمل نتيجة جائحة (كوفيد- 19)، حمّلت النساء أعباء إضافية، بالإضافة إلى أدوار الرعاية التقليدية لأطفالهن”، وفق الموسى.
وأدى المستوى الاقتصادي المتردي بالتزامن مع الانخفاض في قيمة الليرة السورية، والوضع المعيشي الهش إلى “ارتفاع عدد المعوزين بشكل كبير، ما يعرّض النساء للاستغلال والعنف بشكل متزايد”.
تندر فرص وصول النساء إلى مراكز صنع القرار في عدة مناطق سورية، جراء حرمانهن من التعليم وتزويجهن مبكرًا، ولعدم تمكينهن من مهارات عملية تتيح لهن إمكانيات دخول سوق العمل، ما يجعل نسبة كبيرة من نصف المجتمع معطلة نتيجة للعادات المجتمعية.
وبحسب الموسى، فإن “للولاءات العشائرية أو الطائفية ذات الطابع الذكوري أثرًا كبيرًا على الأدوار الإنتاجية للنساء، بسبب محدودية فرص العمل، والزواج المبكر، والتزويج القسري، والقيود على الحركة”.
اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي صدّقت سوريا على الانضمام إليها في 2003 (مع عدد من التحفظات)، تعرّف التمييز ضد المرأة في المادة الأولى منها على أنه “أي تفرقة أو استعباد أو تقييد يتم على أساس الجنس، ويكون من آثاره أو أغراضه النيل من الاعتراف للمرأة على أساس تساوي الرجل والمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، أو في أي ميدان آخر، أو إبطال الاعتراف للمرأة بهذه الحقوق، أو تمتعها بها أو ممارستها لها، بغض النظر عن حالتها الزوجية”.
ومن أجل تحقيق المواطنة في سوريا، لا بد من إلغاء جميع أشكال التمييز القانوني والاجتماعي ضد النساء، والناجيات من التجارب القاسية في السجون خصوصًا.
هذه الأشكال من التمييز تعود مرجعيتها في أغلب الحالات إلى مبدأ القوامة وولاية ذكور العائلة على إناثها، ما يعني انتقاصًا لحقوق النساء وتبعيتهن المطلقة لذكور العائلة.
المصدر : عنب بلدي