“واي صيدنايا”.. تحاكي ألم المعتقلين السوريين على مسرح “بيلليني” بإيطاليا
عُرضت على خشبة مسرح “بيلليني” ضمن فعاليات مهرجان “نابولي” الدولي بإيطاليا المسرحية السورية “واي صيدنايا”، التي تحكي قصص معتقلين ناجين من سجن “صيدنايا”، سيء السمعة، والمعروف باسم “المسلخ البشري”، وتتقاطع أحداثها في معالجة درامية تهدف إلى محاكاة حقيقة ما يجري داخل السجن من واقع أليم يصعب تصديقه ممن لم يعش التجربة.
المسرحية التي عُرضت يومي 22 و 23 من أيلول الماضي، خلال مهرجان “نابولي” الدولي للمسرح، ستستمر عروضها في جولة أوروبية تشمل فرنسا ولاحقًا ألمانيا وهولندا.
جسّد شخصيات المسرحية ستة ممثلين، ثلاثة منهم ناجون من الاعتقال، وهم، رياض اولار، هند قهوجي، شيفان رينيه فاندرلوخت، رامي خلف كبديل عن جمال شقير، آلاء منصور، إضافة إلى المخرج رمزي شقير، ورافقهم على المسرح الموسيقي صالح كاتبة.
وتتناول المسرحية قصة الشاب التركي (رياض اولار)، الذي اعتقل في سجون النظام السوري لمدة 21 عامًا على خلفية نشاطه السياسي، وخرج في عام 2017، ومن خلال قصته تُنسج حكايات سوريين عاشوا معه في السجن أو التقاهم بنفس الفترة.
وتستعرض المسرحية من خلال بقية الشخصيات عمليات الاعتقال التي طالت أشخاصًا لمجرد مشاركتهم في المظاهرات السلمية، وما عانته المعتقلات على وجه الخصوص من قساوة السجن والسجان، والآثار الملازمة للاعتقال والتي يمكن أن ترافق المعتقلة أو المعتقل بعد خروجه من السجن وحتى نهاية حياته، إلى جانب الربط بين الحرب الأهلية اللبنانية وما يجري في سوريا حاليًا.
توثيق إبداعي لقصص المعتقلين
سلطت المسرحية الضوء على سجن “صيدنايا” الذي يتعدى كونه سجنًا بالمفهوم العام للسجون إلى حقيقة كونه محرقةً ومسلخًا يصفي النظام فيه شعبه ومعارضيه من خلال ما يرتكبه بحقهم من مجازر، وفق ما وصف رياض اولار، وهو عضو مؤسس ومنسق في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”.
وفي حديثه لعنب بلدي، أشار رياض إلى أنه ومن خلال تجسيده لدوره في المسرحية كان يعمل على التوثيق الإبداعي أو الفني لقصص المعتقلين، فهو ليس ممثلًا محترفًا بل كان يؤدي دوره ليوثق من خلاله قصته وقصص آلاف المعتقلين السوريين والمختفين قسرًا، في محاولة لإيصال أصواتهم وحكاياتهم التي مازالت تعاش كل يوم في سجن “صيدنايا” وغيره من أماكن الاحتجاز.
ويأتي دوره في المسرحية كمكمّل لما يقوم به من توثيق قانوني خلال عمله في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، التي تشكلت من قبل ضحايا الاعتقال أنفسهم بهدف نقل معاناة المعتقلين داخل السجن وعائلاتهم، وقد أصدرت في سبيل ذلك كتابًا جمع روايات حية لـ 400 معتقل سابق قضوا فترة احتجازهم في هذا السجن خلال السنوات الأولى للثورة السورية، وتحدث بشيء من التفصيل عن يومياتهم وما يتعرضون له من شتى أنواع الحرمان والتعذيب والترهيب.
سيناريو استعصاء “صيدنايا” يتكرر
تنطلق أحداث المسرحية من استعصاء سجن “صيدنايا” عام 2008، في محاولة لاستعراض أسبابه وتطوراته ونتائجه، وما حصل بالفعل داخل السجن في تلك الفترة، التي عايشها بنفسه خلال احتجازه الذي استمر من عام 1996 وحتى عام 2017.
ويصف رياض هذا الاستعصاء بأنه لم يكن عاديًا أو طبيعيًا، معتبرًا أن ما جرى من أحداث خلال الثورة السورية هي تكرار للسيناريو الذي حصل في أثناء الاستعصاء داخل السجن، إذ كانت توجد مطالب محقة جدًا للمعتقلين، وظلم وحرمان بحقهم، واجهها النظام بهجوم مسلح ضدهم استخدم فيه القوة المفرطة، كما تشكلت خلال الأشهر الستة للاستعصاء المجموعات الإسلامية التي تحولت فيما بعد إلى “جيش الإسلام”، و”جبهة النصرة”، وتنظيم “الدولة الإسلامية”، والتي نشطت خلال سنوات الحرب الأخيرة.
21 عامًا من المعاناة التي لم تنتهِ
تدور قصة رياض حول ذهابه إلى سوريا لتعلم اللغة العربية، ومن ثم اعتقاله مع صديقته فيروزة التي بقيت في السجن لمدة ست سنوات، ويروي من خلال دوره ما تعرض له من تعذيب خلال مدة اعتقاله التي استمرت 21 عامًا، وبقي منها 15 عامًا مختفٍ قسريًا، كما يتحدث عن تجربة بقائه في زنزانة منفردة وأشكال الظلام والسواد التي تعرف عليها وعاياشها.
ويتطرق إلى معاناة أسرته جراء اعتقاله، وهو ما عرفه عندما زاره أخاه لأول مرة بعد 15 عامًا، وإلى ظروف الإفراج عنه وما شاهده من مظاهر الدمار والخراب في سوريا جراء الحرب، وهي البلد التي يكن لها مشاعر الحب رغم أنها ليست بلده، إلى جانب المعاناة التي عاشها بعد خروجه من المعتقل.
ولفت رياض في حديثه إلى التحديات التي واجهته في أثناء عرض المسرحية، إذ إنها المرة الأولى التي يقف فيها على خشبة المسرح، وقد استطاع سرد قصته بصدق وأريحية مكّنه من إقناع الجمهور.
وهو يحاول من خلال قصته إيصال رسالة مهمة مفادها أنه رغم التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون، والذي يُحفر في أعماقهم، إلا أنهم أناس أقوياء تمكنوا من مواجهة الظلم الذي تعرضوا له والمنتهكين الذين عذبوهم بشجاعة وصلابة، ولم يسمحوا لهم بإهانة كرامتهم.
واقع لا يمكن تخيله
وحول ردة فعل الجمهور الذي حضر المسرحية أشار رياض إلى أن الإقبال كان كبيرًا وقد بيعت جميع التذاكر، وبدا إعجابه واضحًا من خلال التصفيق والتشجيع الذي أعقب العرض، لافتًا إلى أن الكثير من الحاضرين تساءلوا حول إن كانت القصص التي عرضت بالمسرحية قد حصلت بالفعل أم أنها من محض الخيال.
مخرج المسرحية، رمزي شقير، تحدث من جانبه عن الأصداء الواسعة التي لاقتها المسرحية، إذ انصدم الجمهور بشكل إيجابي، وتفاجأ من قوة القصص، مستغربًا أن تكون حقيقية أو أن يحصل مثل هذا الشيء في الحياة.
وأضاف في حديثه لعنب بلدي أن الحاضرين تفاجؤوا بشكل أكبر عندما عرفوا أن الذين قاموا بتجسيد الأدوار هم أصحاب الحكايات الحقيقية، إذ كانوا يعتقدون أنهم ممثلون محترفون، لأن أداءهم على خشبة المسرح كان جيدًا جدًا، وفق تعبيره.
وأوضح شقير أن مدة التحضير للعمل المسرحي ذهنيًا وفكريًا استغرقت حوالي العام، كما تم إنجازه على فترات متقطعة بين عامي 2019 و2020، يصل مجموعها إلى نحو ثلاثة أشهر، كون أغلب العاملين في المسرحية هم بالأساس ليسوا ممثلين محترفين ولذلك احتاج تدريبهم الكثير من العمل.
وقد تسبب انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيدـ19) ببعض المشاكل اللوجستية إلا أن الفريق تمكن من تجاوز جميع العقبات والصعوبات التي واجهته.
سيكولوجية الجلاد والضحية
بيّن شقير أن مسرحية “واي صيدنايا” هي الجزء الثاني من ثلاثية يعمل على إنجازها، تتحدث عن تفكيك النظام الأمني البوليسي والمؤسسة الدينية التي تتحكم بالمجتمع، في سوريا وغيرها من دول الشرق الأوسط.
وقد حملت المسرحية الأولى ضمن السلسلة اسم “إكس عدرا”، وتناولت مجموعة من حكايات معتقلات سوريات سابقات في سجون النظام السوري، يعشن حاليًا في دول أوروبية، وتحدثت عن نضالهنّ السلمي خلال الثورة السورية، وعن حياتهنّ في أثناء وبعد الثورة، وكيف استطعن شقّ طريقهنّ، بهدف إعطاء الوجه الحقيقي للمرأة السورية، وإبراز دورها ومشاركتها في الثورة.
أما خاتمة هذه الثلاثية، فستتحدث عن الجلادين الذين ارتكبوا الجرائم بحق المعتقلين، وقاموا بتعذيبهم، في محاولة لفهم الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك، وهل هم ولدوا عليه، أم أن النظام جعل منهم أشخاصًا شريرين، وساعدت تركيبتهم النفسية بأن يصبحوا مجرمين في يوم من الأيام، وكيف يمكن مقاضاتهم؟ وما العدالة التي يمكن تحقيقها؟.
وأشار شقير إلى أن ما يبتغيه من خلال عروضه المسرحية ليس محاكمة هؤلاء المجرمين، أو تحقيق العدالة للناجين والناجيات، بل إن هدفه هو تسليط الضوء على المعاناة التي عاشها أصحاب القصص، ومساعدتهم في الوصول إلى العدالة النفسية التي يمكن أن تريحهم، وأن يتمكنوا من سرد قصصهم وعرضها على الجمهور لأنهم دخلوا السجن من أجل نضال سلمي، وقضايا إنسانية تخص المجتمع ككل، وليس من أجل أغراض شخصية.
“جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية”
وكانت منظمة “العفو” الدولية وثقت في تقرير تحت عنوان “المسلخ البشري”، نشرته في شباط من عام 2017، إعدامات جماعية بطرق مختلفة نفذها النظام السوري بحق 13 ألف معتقل في سجن “صيدنايا”، أغلبيتهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015.
وأوضحت المنظمة أن الإعدامات جرت أسبوعيًا أو ربما مرتين في الأسبوع، بشكل سري، واقتيدت خلالها مجموعات تضم أحيانًا 50 شخصًا إلى خارج زنزاناتهم، وشُنقوا حتى الموت.
واستند تقرير المنظمة، الذي جاء في 52 صفحة، إلى تحقيق معمّق أجرته على مدار عام كامل، وتضمن مقابلات وشهادات لـ84 شخصًا، بينهم حراس سابقون في السجن، ومسؤولون ومعتقلون وقضاة ومحامون، إضافة إلى خبراء محليين ودوليين.
ووجهت المنظمة الاتهام إلى النظام واصفة سجن “صيدنايا” العسكري بأنه “المكان الذي تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء”.
كما اعتبرت في تقريرها أن الممارسات السابقة “ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، مؤكدة أنها “مستمرة على الأرجح في السجون داخل سوريا”.
المصدر : عنب بلدي