سوريا : الموت في السجون والمعتقلات
محمد العمر
أضافت شهادة عامل المقبرة أمام محكمة كوبلنز الألمانية مؤخراً، معطيات جديدة في مسار الموت السوري الذي بدأه في مارس (آذار) 2011، وما زال يتابعه نظام الأسد، ومستمر به طالما لم يردعه أحد. وقد عرف السوريون والذين تابعوا تطورات الصراع في سوريا، مراحل مسار الموت، التي تشمل عمليات اقتحام المدن والقرى وأحيائها وحاراتها، ويتم فيها قتل عشوائي واسع للسكان عبر عمليات القصف بالمدفعية والطيران والبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي، أو من خلال قتل انتقائي مرتبط بظروف معينة، منها حالات الانتقام الجماعي، أو سعياً لتهجير السكان من بيوتهم.
وتفتح عمليات الاعتقال التي تتم في أعقاب عمليات الاقتحام أو الاعتقالات الفردية، مرحلة أخرى في مسار الموت الذي تتابعه أجهزة النظام العسكرية والأمنية، حيث يقود الاعتقال إلى موت شبه محقق، وهو ما أكدته معطيات ووقائع وشهادات، تناولت ما أصاب عشرات آلاف ممن اعتقلوا في سجون النظام على مدار السنوات العشر الماضية.
ويبدأ مسار الموت في سجون ومعتقلات نظام الأسد من لحظة الاعتقال، وكل معتقل مرشح للموت فوراً لدى قيامه بأي حركة أو إصداره أي صوت، يخيف أو يستفز الذين اعتقلوه قبل أن يصلوا به إلى مقرهم؛ فرعاً للمخابرات كان أو مركزاً أمنياً لقوات النظام أو تنظيمات الشبيحة، حيث تبدأ حالات التنمر والإهانة، التي يمكن أن تؤدي إلى قتل المعتقل، خصوصاً إذا كان محتجزاً في مقرات الشبيحة.
القسم الأكبر من المعتقلين الذين يموتون في السجون والمعتقلات، يتم قتلهم أثناء التحقيق معهم، ليس فقط خلال سعي المحققين للحصول على اعترافات من المعتقل، أو لإجباره على الاعتراف بأشياء يطلبها المحقق منه. بل إن القتل يكون أحياناً نتيجة سادية المحققين أو عناصر السجن الذين اعتادوا على الدم وانتهاك حق الحياة، وكلها وقائع وميول يغذيها غياب المحاسبة والمساءلة لأي شخص يقتل معتقلاً، وغالباً فإن جريمة كهذه، تجعل مرتكبها صاحب حظوة ومكانة لدى رؤسائه من ضباط مخابرات وجيش النظام.
وقسم من المعتقلين يموت بسبب ما يعقب عمليات التعذيب التي يتعرض لها أثناء التحقيق. إذا أصيب بجروح وكسور وحروق أو ببعضها، وجميعها يمكن أن تتفاقم بشكل عاجل وسط الظروف المعيشية السائدة في معتقلات النظام وسجونه، حيث تفتقد أدنى الاحتياجات الإنسانية بما فيها الرعاية الطبية والدواء، ويموت معتقلون بسبب ظروف الاعتقال العامة؛ ومنها الاكتظاظ والجوع والعطش والأوساخ، وعدم توفر الدواء ومواد التنظيف، ما يؤدي إلى شيوع الأمراض بمختلف أنواعها، إضافة إلى الدخول المؤكد لفيروس كورونا إلى السجون والمعتقلات، التي تحفظ النظام في الكشف عن أي تفاصيل تتعلق بها.
لقد وثقت آلاف الشهادات لناجين من سجون النظام ومنشقين عن الأجهزة الأمنية والعسكرية، ما يصيب المعتقلين والسجناء مؤدياً إلى موتهم هناك. بل إن الشهادات، تعدت تلك الأمكنة للحديث عما يصيبهم في المشافي المدنية والعسكرية، حيث يتحول في الجهاز الإداري والخدمي إلى قتلة، يعذبون المعتقلين الذي يحالون إلى المشافي للعلاج، ويقتلونهم، وقد وضع جهاز الأمن الألماني يده مؤخراً على قضية طبيب سابق في المشفى العسكري بحمص، ولاجئ حالي في ألمانيا، متهم بتعذيب وقتل معتقلين كانوا بالمشفى للعلاج، طبقاً لشهادات صدرت ضده وبعضها شهادات من أطباء كانوا معه آنذاك، وثمة شهادات متداولة عن طبيب، كان مدير مشفى المجتهد بدمشق بداية الثورة، شارك في قتل أطباء من زملائه شكاً في ولائهم للنظام، وقتل معتقلين وصلوا إلى المشفى في حالة إسعاف.
صور قيصر – التي شملت أحد عشر ألفاً من الضحايا، تمثل إحدى أهم شهادات القتل في سجون ومعتقلات النظام، وهي من أكثر الشهادات مصداقية، لأنها صورت لتكون في عداد وثائق النظام عما يحدث للمعتقلين والسجناء، الذين يتم تنظيم شهادات وفاة لهم من مشافٍ هي مسالخ بشرية، يكتبها أطباء بلا ضمير، تقول إنهم ماتوا نتيجة أزمات قلبية أو سكتات دماغية وسط ظروف «طبيعية».
وإذ شرحت الشهادات ما يصيب المعتقلين والسجناء في مسار الموت، فإن تلك الشهادات لم تقدم الفصول الكاملة لجرائم النظام وأجهزته، إلا في حالات نادرة؛ منها ما قيل في واحدة من الشهادات من معارضين عن حرق جثث من يتم إعدامه من المعتقلين، وقد خصت الشهادة سجن صيدنايا العسكري بالقول إن بعض تلك المحارق، خصصت له وسط صدور تقارير متعددة بينها تقرير عن منظمة العفو الدولية عام 2017، قالت فيه إن نحو 13 ألف سجين أُعدموا في سجن صيدنايا القريب من دمشق على مدار الخمس سنوات ما بين 2011 و2015.
وسط نقص الصورة حول ما يؤول إليه مصير جثث المعتقلين والسجناء الذين يقتلهم النظام، جاءت شهادة عامل المقبرة، التي ألقاها أمام محكمة كوبلنز الألمانية مؤخراً بجلستها الحادية والثلاثين لمحاكمة الضابط السوري السابق أنور رسلان وزميله إياد الغريب، حيث كشف كثيراً من تفاصيل غائبة؛ منها وجود المقابر الجماعية في مدينة القطيفة شمال دمشق على طريق دمشق – حمص الدولية وسط مناطق عسكرية، يمنع على المدنيين دخولها إلا بمهمات رسمية، وأكد تفاصيل شائعة، كانت بحاجة إلى تأكيد؛ بينها أن عمليات القتل والتصرف بالجثث محصورة بإدارة طرف مركزي داخل مؤسسة النظام الأمنية – العسكرية، كما أعطى تفاصيل لبعض الأحداث المعروفة، كاشفاً تفاصيل في عمليات إعدام معتقلي وسجناء صيدنايا.
عامل المقبرة الذي قررت المحكمة حماية معلوماته لأسباب تتعلق بحماية ما تبقى من أقاربه في الداخل السوري، كان عاملاً مدنياً في دفن الموتى قبل الثورة، اختاره اثنان من ضباط الأمن وإلى جانبه عشرة عمال آخرون، وعينوه مشرفاً عليهم أواخر عام 2011، للقيام بمهمة جمع جثث المقتولين من فروع المخابرات والمشافي ونقلهم ببرادات كبيرة، ودفنهم في مقابر جماعية موزعة ما بين نجها جنوب دمشق بخمسة عشر كيلومتراً والقطيفة شمال دمشق، وقد استمر عملهم من دون انقطاع أو إجازات ما بين عامي 2011 و2017، وبدوام يومي يمتد ما بين الرابعة والتاسعة صباح كل يوم.
الإضافة الأخطر في شهادة عامل المقبرة، تتصل بتقديره أعداد من تم دفنهم في المقابر الجماعية في نجها والقطيفة في السنوات السبع الأولى، التي قدرها بنحو مليون جثة، ولا ينقص من أهمية هذه الشهادة بعض الالتباسات التي وردت فيها. والجانب الثاني الذي كشفته الشهادة، وجود مقابر جماعية خاصة. إحداها تخص الفرقة الرابعة، التي تدفن من يقتل من معتقليها في مطار المزة العسكري تحت مدرج الطيران، وفرع المخابرات الجوية الذي يدفن الجثث في مقابر جماعية داخل الفرع نفسه، وكشف الشاهد تفاصيل القبور التي تتسع لمئات الجثث، والتي يجري إغلاقها على مراحل وليس مرة واحدة، وهي بين حيثيات أخرى من جرائم قتل المعتقلين، التي سيعاقب مرتكبوها ولو طال الزمن