بعد ثلاثين سنة على إختراع الإنترنت.. كيف تغيّر العالم؟
كيف غيرت الإنترنت العالم إلى الأبد؟ وكيف تحولت إلى إحدى الضروريات التي لا يمكننا العيش بدونها؟
خلال شهر مارس/آذار الجاري وبالضبط يوم الثاني عشر منه، تغير فجأة شعار محرك البحث المعروف “غوغل” واتخذ شكلا خاصا يرمز إلى البدايات الأولى للإنترنت. نحن الآن في 2019، و”غوغل” تريد تخليد ذكرى مرور 30 سنة على الاختراع الذي غيّر وجه العالم، وقرب المسافات، وفتح المجال أمام أكبر ثورة تكنولوجية عرفتها البشرية.
في 1989 كانت النقلة النوعية باختراع شبكة الويب العالمية (World Wide Web)، لكن البدايات الأولى كانت قبل ذلك عام 1969، عندما أنشأت وزارة الدفاع الأمريكية شبكة وكالة مشاريع الأبحاث المتطورة “أربانت” (ARPANET).
فكيف إنتقلنا من مجرد شبكة لتبادل بعض المعلومات على نطاق محدود، إلى شبكة يستعملها حاليا أزيد من أربعة مليارات شخص حول العالم؟ وكيف تحول الإنترنت ليصبح أحد أبرز ضروريات الحياة، وظهرت معه أشكال جديدة للتواصل، وبنيت فوقه أسس الثورة الرقمية؟
البدايات
في 1989 داخل إحدى مختبرات المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية “سيرن” على الحدود بين سويسرا وفرنسا، أنشأ العالِم البريطاني “تيم بيرنرز لي” شبكة هدفها الأساسي ربط المنظمات الأوروبية ببعضها البعض.
وبعد ذلك تواصلت الأبحاث داخل مختبرات “سيرن” إلى أن تمكن “تيم” من تطوير الويب (world wide web) الذي أًصبحنا نرمز له بـ“www” الذي نتصفح باستعماله الشبكة العنكبوتية باستعمال لغة “إتش تي إم إل” (html). ولأهمية هذا الاختراع أصبحت سنة 1989 مرجعا تاريخيا لظهور الإنترنت بشكله الحالي.
البدايات الحقيقية
الصراع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في أوج الحرب الباردة كان وراء ظهور أول نواة لاختراع الإنترنت. فكيف ذلك؟
فقد فاجأ السوفيات الأمريكيين في 1957 بإطلاق مركبة سبوتنيك أول قمر صناعي من صنع الإنسان، وجعل هذا الإنجاز غير المسبوق آنذاك الولايات المتحدة تحس بنوع من التأخر والخوف والانهزام أمام عدوها اللدود، وهو عامل كان حاسما في قرار الرئيس دوايت أيزنهاور بتأسيس وكالة مشاريع الأبحاث المتطورة وسميت اختصارا “أربا” (ARPA). وهذه الوكالة هي التي أنشأت أول شبكة للاتصال بين الحواسيب التي كانت في تلك الفترة بحجم غرفة كاملة.
“أربانت”. النواة الأولى
الشبكة التي أسستها وكالة مشاريع الأبحاث المتطورة سميت “أربانت” نسبة إلى الوكالة، وقام بإدارتها العالم الأمريكي “جون ليكليدر”، وضمت في البداية أربعة حواسيب، وطورتها تدريجيا وزارة الدفاع الأمريكية من أجل ربط مراكز الأبحاث والجامعات بشبكة واحدة.
أما “لينارد كلينروك” أحد العلماء في “أربانت” فيعود له الفضل في إرسال أول رسالة إلكترونية عبر الشبكة.
وفي 1973 تطورت الأبحاث بشكل أكبر وبدأ المهندسون في البحث عن طرق لربط أربانت بالشبكات اللاسلكية، وهو ما تحقق بعد ثلاث سنوات.
وفي 1977 ظهر أول استعمال لمصطلح “إنترنت”، وهو دمج لكلمتي “inter” و“networking” بعد النجاح في إدخال الأقمار الصناعية على الشبكتين الأرضية واللاسلكية.
وللتفريق بين الإنترنت والويب الذي اخترعه العالم البريطاني ”تيم بيرنرز لي”، يمكن تشبيه الإنترنت بالبحر والويب بالباخرة، فكلاهما يحتاج الآخر لتنجح عملية الإبحار.
مثل النار في الهشيم
بعد توالي النجاحات بدأ المشروع يكبر، ومعه إمكانية نشر الإنترنت على نطاق أوسع، وهو ما انطلق في أوائل التسعينيات، وكان ذلك مقتصرا على بعض المؤسسات الحكومية والعسكرية والباحثين وطلاب الجامعات، ثم بعد ذلك الشركات.
وفي 1992 أمكن لأول مرة ربط مليون جهاز بالإنترنت، وبعد سنة ظهر أول متصفح بالشكل الحالي سمي “موزاييك” (NCSA Mosaic).
سنة 1994 تم فتح الإنترنت أمام الاستغلال التجاري، وهو ما شكل نقلة نوعية فقز معها عدد الحواسيب المرتبطة بالشبكة العنكبوتية في ظرف سنتين ليصل إلى 36 مليونا، وتضاعف العدد عشر مرات ليتجاوز 360 مليون جهاز مع بداية الألفية الجديدة.
البرمجة والبريد الإلكتروني
بعد عام 2000 تطورت بشكل واضح البرمجيات والخدمات التي تقدمها شبكة الإنترنت مما مهد لظهور البريد الإلكتروني بشكله الحديث، كما تطورت محركات البحث وظهر التراسل الفوري ثم بعده مواقع التواصل الاجتماعي.
أولى محاولات الإرسال عبر البريد الإلكتروني بدأت كما أشرنا من قبل في عهد شبكة أربانت، ومن أبرز من طور هذه الخدمة بعد ذلك المبرمج الأمريكي “راي توملينسون” الذي أرسل سنة 1971 أوّل رسالة تستخدم الرمز “@” للفصل بين اسم المستخدم وعنوان الحاسوب، وهي الطريقة نفسها التي تعتمد اليوم.
وبعد ذلك توالت التحسينات على الخدمة لتشمل بالإضافة إلى النصوص الصور ومقاطع الفيديو والخرائط.
غوغل” يطيح “ياهو” من القمة
أولى التجارب المتطورة لمحركات البحث على الإنترنت ظهرت مع ألتا فيستا (AltaVista) وغالاكسي (Galaxy) وإنفوسيك (Infoseek) وليكوس (Lycos).
“ياهو” حقق نجاحا باهرا في أواخر التسعينيات بعد أن طوره خريجان من جامعة ستانفورد الأمريكية، وسرعان ما احتل المرتبة الأولى في الولايات المتحدة كأكثر المواقع تصفحا، وظهرت معه خدمات أخرى مثل “ياهو ماسنجر“.
النجاح الذي حققه ياهو في التسعينيات وبداية الألفية الثانية كان سيستمر لو أن الشركة وافقت على عرض غوغل. فالشابان “لاري وسيرجي” كان لديهما سنة 1998 مشروع محرك بحث أسموه غوغل، وقد لجؤوا إلى ياهو في البداية لتمويل المشروع لكن الشركة لم تستحسن الفكرة.
وهكذا بدأ تدريجيا صعود غوغل وأفول ياهو التي كانت وصلت قيمتها في السوق إلى 100 مليار دولار قبل أن تختفي نهائيا في 2017 بعد أن اشترتها شركة “فريزون” الأمريكية بـ4.8 مليارات دولار فقط.
في المقابل نجحت غوغل في الصعود لتحتكر هذا المجال، حتى أصبح العديد من مستعملي الإنترنت يعتقدون أن غوغل هو محرك البحث الوحيد حاليا.
شهد الموقع تطورا سريعا، وفي سنة 2008 تعدت معه قيمة الشركة 145 مليار دولار، وغزت خدماتها الشبكة العنكبوتية، مثل المتصفح الشهير “غوغل كروم”، وخدمة البريد الإلكتروني “جي ميل”، ومن منتجاتها أيضا برنامج الفيديوهات الشهير “يوتيو”. كما توفر غوغل خدمات خاصة بالترجمة “غوغل ترانسليت”، و برامج الخرائط “غوغل مابس”، ثم القفزة الكبرى بدخول عالم البرمجيات مع نظام “أندرويد” للهواتف الذكية.
ثورة مواقع التواصل الاجتماعي
الإنسان اجتماعي بطبعه، وكان لا بد للثورة التكنولوجية أن تكون لها أيضا جوانب اجتماعية، وهو ما تحقق بالفعل مع ظهور الاختراعات متوالية، بدءاً بالتلغراف ثم الهاتف والراديو. لكن اختراع الحاسوب والإنترنت وتطورهما هو ما مهد للثورة التي نعيشها حاليا.
بدأت مواقع التواصل الاجتماعي تدريجيا مع خدمة البريد الإلكتروني والدردشة. وتزامنا مع إطلاق “ويندوز 95” أطلقت “مايكروسوفت” خدمة البريد الإلكتروني “هوت ميل”، وبعد ذلك خدمة الرسائل الفورية “إم إن إن ماسنجر” (MSN Messenger)، والتي حققت نجاحا باهرا استمر سنوات.
لكن أول موقع تواصل اجتماعي كان سنة 1997 سمي “سيكس ديغريز” (Sixdegrees) وكان يسمح بعرض الملف الخاص بالشخص المعني، ويمكّن من تكوين صداقات.
وفى 1999 ظهرت أول مدونة (Live Journal) وبدأت في الانتشار وكانت تشجع مستخدميها على متابعة نشاطات بعضهم البعض وإنشاء المجموعات والتفاعل.
وبعد ذلك توالت التطورات بسرعة ، وظهر “ماي سبيس (My Space) سنة 2003، واستمر إلى غاية 2006 كأكثر الشبكات الاجتماعية انتشاراً في العالم.
مواقع التواصل تحطم الأرقام
في 2004 ظهر الموقع الأشهر على الإطلاق “فيسبوك” مقتصرا في البداية على طلاب جامعة هارفرد الأميركية، قبل أن ينتشر في العالم بأسره.
وفي 2012 تجاوز عدد مستخدميه المليار مستخدم، واستطاع الموقع أن يراكم ثروة هائلة قفزت معها العام الماضي قيمته السوقية إلى نحو 500 مليار دولار.
وبعد فيسبوك ظهر “تويتر”، وهو ثاني أشهر موقع للتواصل الاجتماعي حاليا، ويجمع ملايين المستخدمين خصوصا من المشاهير والسياسيين، وأصبح مصدرا لمعرفة أخبارهم ونشاطاتهم، وكان وراء إطلاق الهاشتاغ (#) لتمييز الكلمات الأكثر تداولاً.
مواقع أخرى حظيت بالتتبع في أوج ثورة مواقع التواصل، نذكر من بينها “غوغل بلس” التابع للعملاق غوغل، وأيضا “إنستغرام” الذي يستخدم لتبادل الصور والفيديوهات، و”لينكد إن” وهو مخصص بالأساس لإيجاد فرص عمل.
كل هذا التطور الذي شهدته مختلف وسائل التواصل الاجتماعي جاء أساسا من تطور الهواتف الذكية التي أصبحت مرتبطة بالإنترنت في كل مكان بفضل شبكات الاتصال التي أصبحت تقدم خدمات أسرع وأقل كلفة.
الإنترنت هو الحياة!
كل التطورات التي حصلت انعكست مباشرة على طريقة عيشنا هذه الأيام، بفضل سرعة الاتصال. فانطلاقا من الجهاز الصغير الذي نحمله معنا في كل مكان، أصبح من السهل ربط الاتصال بأي مكان في العالم بالصوت والصورة، وفي الوقت نفسه الاطلاع على حسابك البنكي أو أداء مختلف الفواتير والتسوق وحجز رحلة في الطائرة أو غرفة في الفندق دون الحاجة إلى التنقل.
وخلال 2017 حققت المبيعات على شبكة الإنترنت أرقاما فلكية متجاوزة 2400 مليار دولار، ومن أهم وأكبر مواقع التجارة الإلكترونية العالمية موقع “أمازون” الذي يُطلق عليه عملاق التسوق. ويُعتبر مؤسس الموقع “جيف بيزوس” حاليا أغنى رجل في العالم بثروة تجاوزت حاجز الـ90 مليار دولار.
سمح الإنترنت أيضا بظهور الصحافة الإلكترونية التي بدأت تعوّض تدريجيا الصحافة الورقية وأصبح الهاتف وسيلة الوصول الأولى إلى المعلومة.
وبعد التجارب الأولى في بداية التسعينيات، كانت صحيفة “واشنطن بوست” أول صحيفة أميركية استثمرت عشرات الملايين من الدولارات لإنشاء أول نسخة إلكترونية لها على الإنترنت، وكان ذلك في 1996. وتعد “الجزيرة نت” التي صدرت في الدوحة في أول يوم من عام 2001 أول صحيفة إلكترونية عربية.
ولإعطاء صورة مبسطة لتأثير الإنترنت على حياتنا اليومية، يكفي أن نعرف أن مليون شخص يلجؤون إلى حساباتهم الشخصية على فيسبوك كل دقيقة، كما تسجل أكثر من أربعة ملايين مشاهدة على يوتيوب في الدقيقة الواحدة، وفي كل دقيقة واحدة أيضا هناك أكثر من 40 مليون رسالة تُرسل على “الواتساب” و”الماسنجر”، كما أن هناك مليون دولار يُنفق كل دقيقة من أجل التسوق الإلكتروني.
مخترع الويب: تحديات ثلاثة
كما بدأنا هذا التقرير نختمه أيضا مع العالم البريطاني “تيم بيرنرز لي”، لكن هذه المرة لنقف عند رؤيته للإنترنت الذي ساهم بشكل كبير في وصوله إلى ما هو عليه الآن.
آخر حوار أدلى به العالم البريطاني كان مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، اعتبر فيه أن جزءا من توقعاته من هذه الشبكة قد تحقق، لكنه تحدث عن ثلاث ظواهر اعتبرها بمثابة تحديات يجب التغلب عليها بسرعة:
أولى هذه التحديات حسب “تيم بيرنرز لي” هي حماية المعطيات الشخصية للأفراد، إذ إن أغلب مواقع الإنترنت، تستغل خدماتها للاستيلاء على معلومات شخصية بعلم الشخص أو من دون علمه. وذلك قد يُستعمل في مراقبة المواطنين وانتهاك خصوصياتهم.
ثاني هذه التحديات سهولة نشر المعلومات الكاذبة والخاطئة على الإنترنت، وخصوصا عبر الولوج إلى العديد من مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث التي من يصعب التأكد من صدقيتها ومصادر معلوماتها.
وثالثها حسب مخترع الويب أن الدعاية السياسية على الإنترنت تحتاج إلى مزيد من الشفافية لتفادي التحكم في الآراء وتكوين جيل يستهلك ولا يفكر.
وشكلت انتخابات 2016 الرئاسية في الولايات المتحدة تأكيدا لهذا التخوف بعد الانتقادات الشديدة التي وُجهت لمواقع التواصل الاجتماعي خصوصا فيسبوك باستعمال الدعاية السياسية بطرق غير أخلاقية بهدف توجيه الناخبين والتلاعب بهم.
وعلى العموم فإن إيجاد حلول لهذه المشاكل لن يكون سهلا على الإطلاق، لكن من المستحيل العودة إلى الوراء، فالجميع ساهم في بناء هذا العالم الموازي، والجميع مطالب أيضا بالمساهمة في جعل هذه الشبكة أكثر أمانا كما نريدها، وأن لا ينقلب السحر على الساحر، وتصبح هي المتحكم فينا.
2019-03-14
المصدر: الجزيرة الوثائقية